مُسْتَغِيثِينَ خَاشِعِينَ، وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا وَأَجْلَى مَظَاهِرِهَا، وَلَا تَرَى مِثْلَهُ مِنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْفَعُهُمْ كَهَذِهِ الْقُبُورِ، ذَلِكَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَتَلَقَّوْنَ عَقَائِدَ دِينِهِمْ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ، وَهُمْ قُبُورِيُّونَ لَا يَعْرِفُونَ مَلْجَأً وَلَا مُلْتَحَدًا عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى السُّلْطَانِ الرَّبَّانِيِّ الْغَيْبِيِّ إِلَّا هَذِهِ الْقُبُورَ، وَأَقَلُّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ بَعْضَ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْكَلَامِيَّةِ الْجَافَّةِ مِمَّنْ أَلِفُوا عِبَادَةَ الْقُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَقْرَءُوهَا، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْعَوَّامِ تِلْكَ الْعِبَادَةَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا كَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَيْهَا نَفْسُ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، لَا فَرْقَ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَأَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ.
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) .
هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِلرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ.
يَقُولُ تَعَالَى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) أَيْ إِلَى رَبِّكُمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ وَشُفَعَائِكُمْ وَأَوْلِيَائِكُمْ تَرْجِعُونَ جَمِيعًا بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْكُمْ أَحَدٌ (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أَيْ وَعَدَ اللهُ هَذَا وَعْدًا حَقًّا لَا يُخْلِفُ (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) هَذَا بَيَانٌ لِمُتَعَلِّقِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ مَرَّتَيْنِ بِدَلِيلِهِ، أَيْ إِنَّ شَأْنَهُ تَعَالَى أَنْ يَبْدَأَ الْخَلْقَ وَيُنْشِئَهُ عِنْدَ التَّكْوِينِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى بَعْدَ انْحِلَالِهِ وَفَنَائِهِ، فَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُسْتَقَبْلِ (يَبْدَأُ) لِتَصْوِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقَبْلَ، وَلَفْظُ الْخَلْقِ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السِّيَاقِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ الْمَادِّيُّونَ مِنْهُمْ وَالرُّوحِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَجَمِيعَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، مَا يُرَى مِنْهَا بِالْأَبْصَارِ وَالْآلَاتِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ وَمَا لَا يُرَى، كُلُّهَا قَدْ وُجِدَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَإِنْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَبْحَثُونَ فِي نَشْأَةِ تَكْوِينِهَا وَالْقُوَّةِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي أَصْلِ مَادَّتِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَوَقُّعِ خَرَابِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُرْتَبِطَةِ مَعَهَا فِي هَذَا النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الْجَامِعِ لَهَا، عَلَى أَنَّ أَقْرَبَ الْأَسْبَابِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الْعِلْمِ الثَّابِتَةِ أَنْ تُصِيبَ الْأَرْضَ قَارِعَةٌ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ فَتَبُسُّهَا بَسًّا، حَتَّى تَكُونَ هَبَاءً مُنْبَثًّا، كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ سُورَةُ الْقَارِعَةِ وَالْوَاقِعَةِ وَغَيْرُهُمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute