للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَأَمَّا بَدْؤُهُ فَقَدْ حَصَلَ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا إِعَادَتُهُ فَدَلِيلُهَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْبَدْءِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠: ٢٧) الْآيَةَ. وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ - وَهِيَ تُقَرِّبُ إِلَى الْعُقُولِ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ - أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَادَ الْحَيَّةَ

يُنْحَلُ مِنْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَتَبَخَّرُ فِي الْهَوَاءِ وَمَا يَمُوتُ فِي دَاخِلِ الْجِسْمِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ، وَيَحِلُّ مَحَلَّ كُلِّ مَا يَزُولُ وَيَنْدَثِرُ مَوَادُّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ حَتَّى يَفْنَى جَسَدُ كُلِّ حَيَوَانٍ، فَهُوَ يَزُولُ فِي سِنِينَ قَلِيلَةٍ وَيَتَجَدَّدُ غَيْرُهُ، فَالْبَدْءُ وَالْإِعَادَةُ فِي كُلِّ جَسَدٍ دَائِمَانِ مَا دَامَ حَيًّا، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ الْبَعْثِ بِالْبَيَانِ الْعِلْمِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (ص ٤١٧ - ٤٢٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ (هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْإِعَادَةِ، أَيْ يُعِيدُهُ لِأَجْلِ جَزَائِهِمْ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: النَّصِيبُ مِنَ الْعَدْلِ، أَيْ لِيَجْزِيَهُمْ بِعَدْلِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ كُلِّ عَامِلٍ حَقَّهُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِعَمَلِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُظْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) (٢١: ٤٧) الْآيَةَ. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَزِيدَهُمْ وَيُضَاعِفَ لَهُمْ كَمَا وَعَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ: (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٤: ١٧٣) وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (٢٦) فَالْحُسْنَى هِي الْجَزَاءُ بِالْقِسْطِ الْمُضَادِّ لِلْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. وَالزِّيَادَةُ فَضْلٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَسَيَأْتِي فِيهَا أَيْضًا قَوْلُهُ: (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (١٠: ٤٧، ٥٤) وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ يَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٥٧: ٢٥) وَقَوْلِهِ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (٧: ٢٩) عَلَى أَنَّ الْقِسْطَ فِي الْآيَتَيْنِ عَامٌّ شَامِلٌ لِأُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانُ أَوِ التَّوْحِيدُ الْمُقَابِلُ لِظُلْمِ الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٣١: ١٣) وَالْمُتَبَادَرُ الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الثَّانِي إِلَّا بِالتَّبَعِ لِلْأَوَّلِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ فِيهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ مِنَ الشَّرْعِ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) الْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ أَوِ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ الَّذِي يُسْتَحَمُّ بِهِ، وَالْعَرَقُ، يُقَالُ: اسْتَحَمَّ الْفَرَسُ إِذَا عَرِقَ، وَالْحَمَّامُ الَّذِي هُوَ مَكَانُ الِاسْتِحْمَامِ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِنَ الثَّانِي. وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْكَافِرِينَ فِي مُقَابَلَةِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ عَلَى مَنْهَجِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرِينَ لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ شَرَابٌ مِنْ مَاءٍ حَمِيمٍ يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ

وَعَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ (وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ) وَنُكْتَةُ هَذَا الْخَاصِّ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا وَنَزَلَ بِلُغَتِهِمْ - وَلَا سِيَّمَا عَرَبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>