الْحِجَازِ - يَشْعُرُونَ بِمَا لَا يَشْعُرُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ بِشُرْبِ الْمَاءِ الْحَمِيمِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ - وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ هَذَا الْجَزَاءُ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ الْمُسْتَمِرَّةِ إِلَى الْمَوْتِ، كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَالنَّذْرِ لِغَيْرِهِ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ لِغَيْرِهِ، وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا لَهُمُ الْكُفْرُ وَيَصُدُّ عَنْهَا الْإِيمَانُ، فَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) لِأَنَّ الَّذِي يَتَجَدَّدُ مِنَ الْكُفْرِ أَعْمَالُهُ لَا عَقِيدَتُهُ. عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْعَقِيدَةِ هُوَ أَثَرُهَا، يَزِيدُهَا قُوَّةً وَرُسُوخًا وَاسْتِمْرَارًا، وَسَيُعَادُ ذِكْرُ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ آيَتَيْنِ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ لِعَمَلِهِمَا.
وَلَعَلَّ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ النَّظْمِ أَوِ الْأُسْلُوبِ - فِي جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ وَتَعْلِيلِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى هُنَا - هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُنْتَهَى كَمَالِ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ لِلَّذِينِ زَكَّوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَلَبَةِ سُلْطَانِ الْأَرْوَاحِ عَلَى الْأَجْسَادِ، وَجَعْلِهَا تَابِعَةً لَهَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَيَلْقَى الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ هُنَالِكَ مِنَ النَّعِيمِ الْمَادِّيِّ الْخَالِي مِنَ الشَّوَائِبِ وَالتَّنْغِيصِ الَّذِي عَهِدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ سُورَةِ التَّوْبَةِ: ٧٢ - مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَضْلُ الْإِنْسَانِيَّةِ الْجَامِعَةِ، عَلَى الرُّوحَانِيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَمَا أَعَدَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهَا مِمَّا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٣٢: ١٧) وَمَا فُسِّرَتْ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَعْلَاهُ مَقَامُ رُؤْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ١٤٣) وَأَدْنَاهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي الْآيَةِ التَّاسِعَةِ.
وَأَمَّا جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، عَلَى تَدْسِيَتِهِمْ وَتَدْنِيسِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْخَطَايَا - وَهِيَ لَهَا كَأَعْرَاضِ الْأَمْرَاضِ الَّتِي سَبَبُهَا مُخَالَفَةُ سُنَّةِ اللهِ فِي حِفْظِ الْأَبْدَانِ وَصِحَّتِهَا - فَلَيْسَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ
الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهَا مُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ، وَمُقْتَضَى اطِّرَادِ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَالْعِلَلِ بِالْمَعْلُولَاتِ، فَهُوَ جَزَاءٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْإِنْكِلِيزِ: هَلْ يَلِيقُ بِعَظَمَةِ اللهِ أَنْ يُعَذِّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ الضَّعِيفَ عَلَى ذُنُوبِهِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى ضَعْفِهِ؟ قُلْتُ إِنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ وَالْكُفْرَ بِنِعَمِهِ، وَاقْتِرَافَ الْخَطَايَا الْمُخَالِفَةِ لِشَرَائِعِهِ وَلِلْوِجْدَانِ الْفِطْرِيِّ فِي الْإِنْسَانِ، تُدَنِّسُ نَفْسَ فَاعِلِهَا وَتُفْسِدُهَا بِمَا يَجْعَلُهَا غَيْرَ أَهْلٍ لِلنَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الْخَاصِّ بِالْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ، فَيَكُونُ الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute