للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهِ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا إِذْ سَأَلُوهُمْ عَنِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ لِارْتِيَابِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ عِلْمٍ بُرْهَانِيٍّ، وَتَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَكُونَ عَنِ اسْتِحْسَانٍ مَا وَتَفْضِيلٍ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَاخْتِيَارٍ لِرِيَاسَتِهِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ.

(قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أَيْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ دُونَ مَا يُخَالِفُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ مُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَمُذْعِنُونَ لَهُ بِالْفِعْلِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ. وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ. وَتَخْضَعُ لَهُ الْإِرَادَةُ، وَتَعْمَلُ بِهَدْيِهِ الْجَوَارِحُ، وَكَانَ مُقْتَضَى مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ أَنْ يَقُولُوا نَعَمْ، أَوْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، أَوْ إِنَّا بِرِسَالَتِهِ عَالِمُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَابُوا بِمَا يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِذَلِكَ عِلْمًا يَقِينِيًّا إِذْعَانِيًّا لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، إِذْ آمَنُوا بِهِ إِيمَانًا صَادِقًا كَامِلًا صَارَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِمُ الرَّاسِخَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ شَيْئًا يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. بَلْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ بِالْبُرْهَانِ وَهُوَ يَنْفُرُ مِنْهُ بِالْوُجْدَانِ. فَيَجْحَدُهُ وَيُحَارِبُهُ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهِ. اسْتِكْبَارًا عَنْهُ أَوْ حَسَدًا لِأَهْلِهِ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) .

(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ كَافِرُونَ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ أَصْلِ الرِّسَالَةِ لَهُ، وَلَوْ قَالُوهُ لَكَانَ شَهَادَةً مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ لِلْحَقِّ عَلَى عِلْمٍ لِمَحْضِ الِاسْتِكْبَارِ.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أَصْلُ الْعَقْرِ الْجَرْحُ، وَعَقْرُ الْإِبِلِ قَطْعُ قَوَائِمِهَا، وَكَانُوا يَعْقِرُونَ الْبَعِيرَ قَبْلَ نَحْرِهِ لِيَمُوتَ فِي مَكَانِهِ وَلَا يَنَدَّ، ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّحْرِ، وَهُوَ طَعْنُهُ فِي الْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ مِنْ حَلْقِهِ بِالْمَنْحَرِ. أُسْنِدَ الْعَقْرُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْكَافِرِينَ، وَقِيلَ: إِلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَبِيلَةِ - وَالْمُتَعَاطِي لَهُ

وَاحِدٌ مِنْهُمْ - لِأَنَّهُ بِتَوَاطُئِهِمْ وَرِضَاهُمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْقَمَرِ: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) (٥٤: ٢٩) وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا " فَانْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو عِزٍّ وَمَنْعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمْعَةَ " وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ الْأُمَمِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا فِي جُمْلَتِهَا، كَمَا أَنَّهَا تُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَتِهَا، وَلَوْ بَقِيَ الصَّالِحُونَ فِيهَا لَأَصَابَهُمُ الْعَذَابُ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٨: ٢٥) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَاقِرَ النَّاقَةِ قَالَ: لَا أَقْتُلُهَا حَتَّى تَرْضَوْا أَجْمَعِينَ فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي خِدْرِهَا فَيَقُولُونَ: أَتَرْضِينَ؟ فَتَقُولُ: نَعَمْ، وَعَلَى الصَّبِيِّ. . . حَتَّى رَضُوا أَجْمَعِينَ فَعَقَرُوهَا.

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أَيْ تَمَرَّدُوا مُسْتَكْبِرِينَ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، ضَمِنَ الْعُتُوُّ مَعْنَى الِاسْتِكْبَارِ، وَالْعُتُوُّ فِي اللُّغَةِ: التَّمَرُّدُ وَالِامْتِنَاعُ، وَيَكُونُ عَنْ ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَمِنْهُ عَتَا الشَّيْخُ وَبَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا: إِذَا أَسَنَّ فَامْتَنَعَ مِنَ الْمُوَاتَاةِ عَلَى مَا يُرَادُ مِنْهُ - وَعَنْ قُوَّةٍ وَعُتُوٍّ كَوَصْفِ الرِّيحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>