للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَى تِلْكَ الْعَاقِبَةِ، فَقَالَ: وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبْدَأُ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِرَاءَاتِ وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ؛ لِتَفْهَمَ عِبَارَتَهَا كَمَا يَجِبُ، وَيَكُونُ سِيَاقُ الْقِصَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَفِيهَا بَحْثَانِ دَقِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: بِدْءُ الْقِصَّةِ بِالْعَطْفِ، وَكَوْنُهُ بِالْوَاوِ، وَالثَّانِي: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ.

لَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى وَجْهِ بِدْءِ الْآيَةِ بِالْعَطْفِ، وَبَيَانِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِثْلِهَا مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طَهَ، إِذْ قَالَ بَعْدَ أَمْرِ مُوسَى بِالذَّهَابِ مَعَ أَخِيهِ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَتَبْلِيغِهِ الدَّعْوَةَ مُبَيِّنًا كَيْفَ كَانَ امْتِثَالُهَا لِلْأَمْرِ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٢٠: ٤٨) فَجَاءَ بِهِ مَفْصُولًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ غَيْرَ مَوْصُولٍ بِالْوَاوِ وَلَا بَأَوْ وَلَا بِالْفَاءِ، وَمِثْلُهُ فِي الْفَصْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، وَلَمْ يَقُلْ:

" فَقَالَ " أَوْ " قَالَ " لَكِنَّهُ عَطَفَ تَبْلِيغَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَهَا بِالْفَاءِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْوَصْلِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْفَصْلِ فِي قِصَّةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ لَدَيْنَا هُنَا عَطْفًا بِالْفَاءِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَعَطْفًا بِالْوَاوِ فِي قِصَّةِ مُوسَى، وَفَصْلًا بَيَانِيًّا فِي الْقَصَصِ الَّتِي بَيْنَهُمَا يُشْبِهُ الْفَصْلَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَعَطْفُ التَّبْلِيغِ فِيهِ عَلَى الْإِرْسَالِ بِالْفَاءِ؛ لِإِفَادَةِ التَّعْقِيبِ وَعَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْقَصَصِ بَعْدَهُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ هَذَا مَعْلُومًا وَكَانَ مَا جَرَى مِنْ أَمْرِ قَوْمِ نُوحٍ عِبْرَةً لِقَوْمِ هُودٍ، وَكَانَا مَعًا عِبْرَةً لِقَوْمِ صَالِحٍ وَهَلُمَّ جَرًّا، حَسُنَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا النَّبِيِّ مَعَ قَوْمِهِ؟ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَوَجْهُ الْعَطْفِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ بِالْوَاوِ هُوَ أَنَّهُ قَدْ قَفَى فِي قِصَّةِ مُوسَى هُنَا عَلَى ذِكْرِ إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِذِكْرِ نَتِيجَةِ هَذَا الْإِرْسَالِ وَعَاقِبَتِهِ بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَلَمُوا بِهَا إِلَخْ، وَبُدِئَتِ الْقِصَّةُ بَعْدَهُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ الْإِجْمَالِ وَمُقْدِّمَاتِ تِلْكَ النَّتِيجَةِ، فَكَانَ الْمُنَاسَبُ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا لَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتِيجَةِ، أَوْ بَيْنَ التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمُقْدِّمَاتُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ النَّتِيجَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَهَذِهِ دِقَّةٌ فِي الْبَلَاغَةِ لَا يَهْتَدِي إِلَى مِثْلِهَا إِلَّا غَوَّاصُو بَحْرِ الْبَيَانِ، وَلَا يَكَادُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>