للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ مَا قَضَاهُ اللهُ تَعَالَى وَقَدَّرَهُ مِنْ أَعْمَارِ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى وَإِيمَانِ أَكْثَرِهِمْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وِفَاقًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، هُوَ جَوَازُ إِرَادَةِ كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرَ بَعْضَهَا فِي رِوَايَاتِهِ، وَأَنَّ هَذَا سَبَبُ تَنْكِيرِهِ وَإِبْهَامِهِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمْ أَكْلَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْفِدَاءِ، وَعَدَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنَائِمِ الَّتِي أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (٨: ٤١) إِلَخْ، فَقَالَ: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا أَيْ: وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ سَبَقَ مِنْهُ كِتَابٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُكُمْ، أَوْ يَقْتَضِي أَلَّا يُعَذِّبَكُمْ بِهَذَا الذَّنْبِ الَّذِي خَالَفْتُمْ بِهِ سُنَّتَهُ وَهَدْيَ أَنْبِيَائِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ مِنَ الْفِدْيَةِ حَالَةَ كَوْنِهِ حَلَالًا بِإِحْلَالِهِ لَكُمُ الْآنَ طَيِّبًا فِي نَفْسِهِ، لَا خُبْثَ فِيهِ مِمَّا حُرِّمَ لِذَاتِهِ كَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ - وَاجْعَلُوا بَاقِيَهَ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي بَيَّنْتُ لَكُمْ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَاتَّقُوا اللهَ فِي الْعَوْدِ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ كُفَّارًا كَانُوا أَوْ مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُحِلَّهُ اللهُ لَكُمْ، وَقَالَ جَرِيرٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَخَافُوا اللهَ أَنْ تَعُودُوا، أَنْ تَفْعَلُوا فِي دِينِكُمْ

شَيْئًا مِنْ هَذَا، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ لَكُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَالَ: غَفُورٌ لِذُنُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ عِبَادِهِ، رَحِيمٌ بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا اهـ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ هُنَا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنْ مَغْفِرَتِهِ تَعَالَى لِذَنْبِهِمْ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَإِيثَارِ جُمْهُورِهِمْ لِعَرَضِ الدُّنْيَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ إِيثَارُ الْآخِرَةِ مِنْ طَلَبِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ أَوَّلًا، لِإِعْزَازِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ، بِإِذْلَالِ الشِّرْكِ وَكَبْتِ حِزْبِهِ - وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ بِإِبَاحَةِ مَا أَخَذُوا وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْأَقْرَبُ تَفْسِيرُهُ بِأَنَّهُ غَفُورٌ لِلْمُتَّقِي رَحِيمٌ بِهِمْ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مِمَّا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى يُفَادِيهِمْ أَوْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْغَلَبُ وَالسُّلْطَانُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ اللهِ الْكَافِرِينَ، لِئَلَّا يُفْضِي أَخْذُهُ الْأَسْرَى إِلَى ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَيْهِمْ - وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مُفَادَاةِ أَسْرَى بَدْرٍ بِالْمَالِ كَانَ ذَنْبًا سَبَبُهُ إِرَادَةُ جُمْهُورِهِمْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، عَلَى مَا كَانَ مِنْ ذَنْبِ أَخْذِهِمْ لَهُمْ قَبْلَ الْإِثْخَانِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ بِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَجَعْلِ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَسَأَلُوا الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْهُ، كَمَا سَأَلُوهُ عَنِ الْأَنْفَالِ مِنْ قَبْلِهِ - وَأَنَّهُ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ مُقْتَضَاهُ عَدَمُ عِقَابِهِمْ عَلَى ذَنْبِ أَخْذِ الْفِدَاءِ قَبْلَ إِذْنِهِ تَعَالَى، وَعَلَى خِلَافِ سُنَّتِهِ، وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي أَخْذِهِمْ ذَلِكَ - وَأَنَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ لَهُمْ مَا أَخَذُوا وَغَفَرَ لَهُمْ ذَنْبَهُمْ بِأَخْذِهِ قَبْلَ إِحْلَالِهِ لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>