للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَانَ أَعْظَمَ مِنْ عَرْشِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّ تَدْبِيرَهَا وَحُكْمَهَا الشُّورِيَّ (الدِّيمُقْرَاطِيَّ) كَانَ دُونَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ الدِّينِيِّ، وَرُبَّ عَرْشٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَعَرْشٍ مِنَ الْخَشَبِ، وَأَمَّا عَرْشُ الرَّحْمَنِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا نُدْرِكُهُ بِحَوَاسِّنَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ تَصْوِيرَهُ بِأَفْكَارِنَا، فَأَجْدِرْ بِنَا أَلَّا نَعْلَمَ كُنْهَ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَصُدُورَ تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ عَنْهُ، وَحَسْبُنَا أَنْ نَفْهَمَ الْكِتَابَةَ وَنَسْتَفِيدَ الْعِبْرَةَ، فَمَا أَجْهَلَ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْغَيْبِيَّةِ بِأَقْيِسَتِهِمْ وَآرَائِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ! وَمَا أَحْسَنَ مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ - رَحِمَهُمَا اللهُ - مِنْ قَوْلِهِمُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) فَنَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ دُونَ هَذَا الْعَرْشِ

مِنْ مَادَّةِ هَذَا الْخَلْقِ قَبْلَ تَكْوِينِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ هُوَ هَذَا الْمَاءُ، الَّذِي أَخْبَرَنَا - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُ جَعَلَهُ أَصْلًا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، إِذْ قَالَ: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٣٠) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً مُتَّصِلَةً لَا فَتْقَ فِيهَا وَلَا انْفِصَالَ - وَهِيَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ بِالسَّدِيمِ وَبِلُغَةِ الْقُرْآنِ بِالدُّخَانِ - فَفَتَقْنَاهُمَا بِفَصْلِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ مِنْهَا مَا هُوَ سَمَاءٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَرْضٌ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ، فِي الْمُقَابَلَةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ، كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْفَاعِلَ لِهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْبَدُ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ كَبَدْئِهِ؟

فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَنَّ الَّذِي كَانَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَزَّلُ إِلَيْهِ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَالتَّكْوِينِ مِنْهُ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، لَا مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفَنِّيِّينَ فِي الْمَاءِ وَالْعَرْشِ، مِمَّا تَأْبَاهُ اللُّغَةُ وَالْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، وَالْعِبَارَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ ذَاتَ الْعَرْشِ الْمَخْلُوقِ كَانَ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ كَالسُّفُنِ الَّتِي نَرَاهَا رَاسِيَةً فِيهِ الْآنَ كَمَا قِيلَ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْإِخْبَارِ بِمِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ هُوَ دُونَ فَائِدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْعَرْشِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُنَا مَعْرِفَةً بِرَبِّنَا وَبِحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ نَظَرِيَّاتِ عِلْمِ التَّكْوِينِ وَعِلْمِ الْحَيَاةِ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَمَا ثَبَتَ مِنَ التَّجَارِبِ فِيهَا، وَيُخَالِفُ أَتَمَّ الْمُخَالَفَةِ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْفَلَكِ الْقَدِيمَةِ وَنَظَرِيَّاتِهِ الْمُسَلَّمَةِ. وَبِهَذَا يُعَدُّ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَظْهَرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ.

ثُمَّ عَلَّلَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَلْقَهُ لِمَا ذَكَرَ بِبَعْضِ حِكَمِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ:

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أَيْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ بَلَاءً، أَيِ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا لَكُمْ،

<<  <  ج: ص:  >  >>