بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، مَا مِنْ ضَرْبٍ مِنْهَا إِلَّا وَهُوَ مُنْتَقَدٌ بِالْخَطَلِ أَوْ إِيهَامِ خِلَافِ الْمُرَادِ أَوِ الْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ إِلَّا نَظْمَ الْآيَةِ، فَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي الْمَعْنَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَلَا يَتَأَتَّى نَظْمٌ آخَرُ يُؤَدِّي مُؤَدَّاهُ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْإِعْجَازَ لَيْسَ إِلَهِيًّا.
لَوْ أُخِذَ مَا قَالُوهُ مُسَلَّمًا عَلَى إِطْلَاقِهِ، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يَتَجَلَّى لَهُ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهُ جَمِيعُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ لَهُ، وَجَمِيعُ ضُرُوبِ النَّظْمِ، وَوُجُوهُ الْأَسَالِيبِ الْمُمْكِنَةِ فِي تَرْتِيبِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ وَتَأْلِيفِهَا فَيَخْتَارُ الْأَحْسَنَ وَالْأَبْلَغَ مِنْهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي قُدْرَةِ
الْبَشَرِ - كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَاءَ بِهِ مُؤَيَّدًا بِعِنَايَةٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ بِمَا قَالُوهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَّجِهُ إِلَّا فِي أَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ كَأَلْفَاظِ آيَةِ (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) . . . إِلَخْ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَعَانِي لَا سِيَّمَا الْكُلِّيَّةِ تَرَاهَا تَتَجَلَّى فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّظْمِ الَّذِي تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ، وَأَمَامُنَا الْآنَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَهُوَ أَنَّ اللهَ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا،، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِشَرِيعَتِهِ وَوَصَايَاهُ، وَكَانَ أَخْذُ هَذَا الْعَهْدِ فِي مَوْقِفِ رَهْبَةٍ وَخُشُوعٍ يُعِينُ عَلَى أَخْذِهِ بِالْجِدِّ وَالْعَزِيمَةِ، إِذْ كَانَ الْجَبَلُ مَرْفُوعًا فَوْقَهُمْ بِصِفَةٍ لَمْ يَعْهَدُوهَا حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ نَقَضُوا هَذَا الْمِيثَاقَ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَاغُوهُ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِأَيْدِيهِمْ عَنْ حُبٍّ مُتَمَكِّنٍ مِنَ النَّفْسِ وَغَالِبٍ عَلَى الْعَقْلِ وَالْحِسِّ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَكِنْ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنِ الْمِيثَاقِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِحِفْظِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ رَجَاءَ التَّقْوَى، وَكَآيَةِ الْأَعْرَافِ (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (٧: ١٧١) وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا هُنَاكَ، وَكِلَاهُمَا غَايَةٌ فِي الْبَلَاغَةِ.
وَذَكَرَهُ هُنَا بِنَظْمٍ آخَرَ تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْبَلَاغَةُ فِي سِيَاقٍ آخَرَ فَقَالَ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الْحَاضِرِينَ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَابِرِينَ فَقَالَ: (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) أَيْ أَنَّهُمْ قَبِلُوا الْمِيثَاقَ وَفَهِمُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ بَلْ خَالَفُوهُ تَعَنُّتًا وَتَأَوُّلًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ بِمَثَابَةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّجَوُّزِ مَعْرُوفٌ فِي عَهْدِ الْعَرَبِ وَفِي هَذَا الْعَهْدِ، يُعَبِّرُونَ عَنْ حَالِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ بِقَوْلٍ يَحْكِيهِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى حُكِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ وَعَنِ الْجَمَادَاتِ أَيْضًا، وَهُوَ أُسْلُوبٌ أَظُنُّ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ أَوْ فِي اللُّغَاتِ الرَّاقِيَةِ فَقَطْ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَقْبَحَ أَمْثِلَةِ هَذَا الْعِصْيَانِ بِعِبَارَةٍ مُدْهِشَةٍ فِي بَلَاغَتِهَا فَقَالَ: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) ، هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ فَرَائِدِ الِاسْتِعَارَاتِ يُتَمَثَّلُ بِهَا عِنْدَ ذِكْرِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. وَإِشْرَابُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ: مُخَالَطَتُهُ إِيَّاهُ وَامْتِزَاجُهُ بِهِ
، يُقَالُ: بَيَاضٌ مُشَرَّبٌ بِحُمْرَةٍ، أَوْ هُوَ مِنَ الشُّرْبِ كَأَنَّ الشَّيْءَ الْمَحْبُوبَ شَرَابٌ يُسَاغُ، فَهُوَ يَسْرِي فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ وَيُمَازِجُهُ كَمَا يَسْرِي الشَّرَابُ الْعَذْبُ الْبَارِدُ فِي لَهَاتِهِ. وَقَدْ قَدَّرَ الْأَكْثَرُونَ هُنَا مُضَافًا مَحْذُوفًا، فَقَالُوا: الْمُرَادُ " حُبُّ الْعِجْلِ "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute