للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِنْهَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ أُعِيدَ ذِكْرُ الْهِدَايَةِ لِبَيَانِ مُتَعَلِّقِهَا - وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ - عَلَى مَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَلِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

(ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْهُدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْأَخْيَارُ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ هُوَ هُدَى اللهِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ وَرَاءَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهُدَى الْعَامِّ، كَهُدَى الْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيصَالِ بِالْفِعْلِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى السَّعَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقَوْلُهُ: (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يَقَعُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقَوْلُهُ: (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يَقَعُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: هِدَايَةٌ لَيْسَ لِصَاحِبِهَا سَعْيٌ لَهَا وَلَا هِيَ مِمَّا يُنَالُ بِكَسْبِهِ وَهِيَ النُّبُوَّةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) ٩٣: ٧ وَهِدَايَةٌ قَدْ تُنَالُ بِالْكَسْبِ وَالِاسْتِعْدَادِ مَعَ اللُّطْفِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّوْفِيقِ لِنَيْلِ الْمُرَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا السِّيَاقِ (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ وَلَوْ فُرِضَ أَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ أُولَئِكَ الْمَهْدِيُّونَ الْمُجْتَبَوْنَ، لَحَبِطَ - أَيْ بَطَلَ - وَسَقَطَ عَنْهُمْ ثَوَابُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِزَوَالِ أَفْضَلِ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَسَاسُ لِمَا رُفِعَ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ ; لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ الْمُزَكِّي لِلْأَنْفُسِ، كَانَ ضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ مُنْتَهَى النَّقْصِ وَالْفَسَادِ الْمُدَسِّي لَهَا، وَالْمُفْسِدِ لِفِطْرَتِهَا، فَلَا

يَبْقَى مَعَهُ تَأْثِيرٌ نَافِعٌ لِعَمَلٍ آخَرَ فِيهَا - يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَجَاتُهَا وَفَلَاحُهَا.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي " أُولَئِكَ " إِلَى مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى شُمُولِهَا مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ إِجْمَالًا مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ وَإِنْجِيلِ عِيسَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ الْفَهْمُ بِالْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ اللُّبُّ. (قَالَ) وَعَنَى بِذَلِكَ مُجَاهِدٌ - إِنْ شَاءَ اللهُ - مَا قُلْتُ ; لِأَنَّ اللُّبَّ هُوَ الْعَقْلُ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللهَ آتَاهُمُ الْعَقْلَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ الْفَهْمُ بِهِ انْتَهَى. وَلَمْ يُرْوَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الْحُكْمِ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْحُكْمُ يُطْلَقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُ قَطْعًا، وَهُوَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ فِقْهَ الْمَعْلُومِ وَفَهْمَ سِرِّهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَضَاءِ لِخَصْمٍ عَلَى خَصْمٍ بِأَنَّ هَذَا حَقُّهُ أَوْ لَيْسَ بِحَقِّهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ أَنْ تَقْضِيَ بِأَنَّهُ كَذَا سَوَاءٌ أَلْزَمْتَ ذَلِكَ غَيْرَكَ أَوْ لَمْ تُلْزِمْهُ وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْحُكْمُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ مَصْدَرُ حَكَمَ يَحْكُمُ كَـ (نَصَرَ) يَنْصُرُ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ سِيدَهْ أَنَّ الْحُكْمَ الْقَضَاءُ وَجَمْعُهُ أَحْكَامٌ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْعَدْلِ، وَعَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>