للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَعْلَمُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا مَا مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَوْمُهُ وَهُمْ قُرَيْشٌ يَعْلَمُونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْفِيِّ هُنَا وَأَكْثَرَهُمْ كَافِرُونَ بِهِ لَكَذَّبُوهُ، وَلَنُقِلَ تَكْذِيبُهُمُ الْخَاصُّ لَهُ فِيهَا؛ كَمَا نُقِلَ تَكْذِيبُهُمْ الْعَامُّ لِلْقِصَصِ كُلِّهَا، إِذْ قَالُوا إِنَّهُ افْتَرَاهَا، وَلَكِنَّ هَذَا طَعْنٌ مُفْتَعَلٌ فِي شَيْءٍ لَا يُعْلَمُ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَقَدْ تُحُدُّوا فِيهِ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ الْخَاصُّ فِيمَا يُعْلَمُ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ - وَهُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا - فَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ يَكُونُ حُجَّةً وَلَوْ ظَاهِرَةً لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فَتَمَّتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي رُسُلِهِ وَأَقْوَامِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ الْمُتَّقُونَ، فَأَنْتُمُ النَّاجُونَ الْمُفْلِحُونَ، وَالْمُصِرُّونَ عَلَى عَدَاوَتِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْهَالِكُونَ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ.

عِلَاوَاتُ التَّفْسِيرِ قِصَّةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

الْعِلَاوَةُ الْأُولَى، الْبَلَاغَةُ الْفَنِّيَّةُ فِي الْآيَةِ ٤٤

سَبَقَ لَنَا أَنْ قُلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ، وَمَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُدَبَاءِ الْفُنُونِ فِي التَّحَدِّي بِهِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ يَقِلُّ مَنْ يَفْقَهُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِفَقْدِ أَهْلِهِ مَلَكَتَيِ الْبَلَاغَةِ الذَّوْقِيَّةِ السَّلِيقِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ الْفَنِّيَّةِ، بَلْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ لِإِدْرَاكِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْقَهُهُ وَيُدْرِكُ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ جَزَمُوا بِوُقُوعِ الْعَجْزِ وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الدَّلَالَةِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ حُذَّاقِ الْفَنَّانِينَ فِي الْوَشْيِ وَالتَّطْرِيزِ إِذَا رَأَوْا صُنْعَ قُدَمَاءِ الْهُنُودِ مِنْ أَهْلِ هُورَ وَكَشْمِيرَ وَأَقَرُّوا بِالْعَجْزِ عَنْ مُحَاكَاتِهِ، أَوِ الْمُصَوِّرِينَ إِذَا رَأَوْا أَدَقَّ صُوَرِ رَفَائِيلَ فِي تَصْوِيرِ الْإِنْسَانِ بِأَدَقِّ مَنَاظِرِ أَعْضَائِهِ وَشَمَائِلِهِ وَمَلَامِحِ صِفَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَأَمَارَاتِ انْفِعَالَاتِهِ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَقَارِبَةُ: كَالْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ، وَالْغَضَبِ، وَنَظَرِ الْإِقْرَارِ، وَنَظَرِ الْإِنْكَارِ، وَنَظَرِ الشَّهْوَةِ، وَنَظَرِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَنَظَرِ الْإِعْجَابِ وَالْعَجَبِ، وَنَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ وَالْمُتَحَيِّرِ، فَقَدْ يُقِرُّونَ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُحَاكَاتِهَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعَدَمِ إِمْكَانِهَا، بَلْ يَقُولُونَ بِإِمْكَانِهَا وَبِقُرْبِ وُقُوعِهَا بِالْفِعْلِ إِذَا وُجِدَتِ الدَّاعِيَةُ الْقَوِيَّةُ كَمَنْفَعَةٍ مَالِيَّةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ قَوْمِيَّةٍ أَوْ دَوْلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ تَارِيخِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ فُصَحَاءِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ حَدَثَتْ لَهُمْ أَعْظَمُ الدَّوَاعِي وَالْمَصَالِحِ لِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَالتَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ فِي الْمُكَرَّرِ وَلَوْ مُفْتَرًى، فَأَيْقَنُوا بِعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا وَبِهِنَّ، وَلَوْ ظَاهَرَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْإِنْسِ عَلَى كَثْرَةِ بُلَغَائِهِمْ وَفُصَحَائِهِمْ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِنْهُمْ هَوَاجِسَ تُلَقِّنُهُمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>