للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنَّهُمْ فَقَدُوا حَاسَّتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَصَارُوا صُمًّا وَعُمْيَانًا بِالْفِعْلِ ; بَلْ هُمْ كَمَا يَقُولُ أَمْثَالُهُمْ فِيمَا يُبْغِضُونَ: إِنَّنِي لَا أُطِيقُ رُؤْيَةَ فُلَانٍ، وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَسْمَعَ كَلَامَهُ، وَتَذَكَّرْ أَوْ رَاجِعْ قَوْلَهُ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) (١٠: ٤٢) إِلَخْ.

وَأَمْثَالُهُمْ مُشَاهَدُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، أَعْطَى رَجُلٌ مُؤْمِنٌ رَجُلًا مُتَفَرْنِجًا مِنْهُمْ كِتَابَ ((الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) الَّذِي شَهِدَ لَهُ مَنْ قَرَأَهُ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِطَلَاوَةِ عِبَارَتِهِ

وَحُسْنِ بَيَانِهِ، وَمُوَافَقَةِ أُسْلُوبِهِ وَتَرْتِيبِهِ وَتَبْوِيبِهِ لِذَوْقِ هَذَا الْعَصْرِ، ثُمَّ سَأَلَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ: كَيْفَ رَآهُ؟ ظَانًّا أَنَّهُ قَرَأَهُ كُلَّهُ بِشَغَفٍ وَأَنَّهُ سَيَشْكُرُ لَهُ هَدِيَّتَهُ، فَقَالَ: إِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَقْرَأَ مِنْهُ صَفْحَةً وَاحِدَةً، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ كُتُبَ أَشْهَرِ الْمَلَاحِدَةِ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِلَذَّةٍ وَرَغْبَةٍ كَمَا يَقْرَأُ الْقِصَصَ (الرِّوَايَاتِ) الْغَرَامِيَّةَ! ! ! !

(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ، وَاشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، فَإِنَّهُمْ دَسُّوهَا وَمَا زَكَّوْهَا فِي الدُّنْيَا فَفَقَدُوهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَيُّ وُجُودٍ لِمَنْ يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، فَلَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) مِنَ اتِّخَاذِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَقَدْ سَبَقَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي سِيَاقِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) (٧: ٤٤ و٤٥) .

(لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) كَلِمَةُ لَا جَرَمَ تُفِيدُ التَّحْقِيقَ وَالتَّأْكِيدَ لِمَا بَعْدَهَا ; قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، ثُمَّ كَثُرَتْ فَحُوِّلَتْ إِلَى مَعْنَى الْقَسَمِ وَصَارَتْ بِمَعْنَى ((حَقًّا)) وَلِهَذَا تُجَابُ بِاللَّامِ نَحْوَ: لَا جَرَمَ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَيْ حَقًّا إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَأَشَدُّ النَّاسِ خُسْرَانًا. وَتَرَى مِثْلَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ، بِهَذَا وَصَفَ الْفَرِيقَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ، وَيَلِيهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ - جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خِيَارِهِ وَأَنْصَارِهِ - وَهُوَ:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) أَيْ خَشَعُوا لَهُ وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَلَانَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا زِلْزَالٌ وَلَا اضْطِرَابٌ. وَأَصْلُ الْإِخْبَاتِ قَصْدُ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ وَالنُّزُولُ فِيهِ، يَقُولُونَ: أَخْبَتَ الرَّجُلُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>