عَلَى أَنَّ لِلْأَرْضِ حَرَكَتَيْنِ، حَرَكَةٌ تَتِمُّ فِي ٢٤ سَاعَةً وَهِيَ مَدَارُ حِسَابِ الْأَيَّامِ، وَحَرَكَةٌ تَتِمُّ فِي سَنَةٍ وَبِهَا يَكُونُ اخْتِلَافُ الْفُصُولِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ حِسَابِ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ، وَلَعَلَّنَا نَشْرَحُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ وَغَيْرِهَا.
(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أَيْ ذَلِكَ الْجَعْلُ الْعَالِي الشَّأْنِ، الْبَعِيدُ الْمَدَى فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، فَوْقَ بُعْدِ النَّيِّرَاتِ عَنِ الْإِنْسَانِ، التَّرَتُّبُ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ سَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَيَّامِ وَالْفُصُولِ وَتَقْدِيرِ السُّنَنِ الشَّمْسِيَّةِ، وَمِنْ تَشُكُّلَاتِ الْقَمَرِ الَّتِي نَعْرِفُ بِهَا الشُّهُورَ الْقَمَرِيَّةَ، هُوَ تَقْدِيرُ الْخَالِقِ الْغَالِبِ عَلَى أَمْرِهِ فِي تَنْظِيمِ مُلْكِهِ، الَّذِي وَضَعَ الْمَقَادِيرَ وَالْأَنْظِمَةَ الْفَلَكِيَّةَ وَغَيْرَهَا بِمَا اقْتَضَاهُ وَاسِعُ عِلْمِهِ، فَهَذَا النِّظَامُ وَالْإِبْدَاعُ مِنْ آثَارِ عِزَّتِهِ وَعِلْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ جُزَافٌ وَلَا خَلَلٌ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) ٥٤: ٤٩.
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ الْعُلْوِيَّةِ مَقْرُونٌ بِفَائِدَتِهِ فِي تَعْلِيلِ جَعْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّجُومِ مَا عَدَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ نَيِّرَاتِ السَّمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمَعْهُودُ فِي الِاهْتِدَاءِ، ذَكَّرَنَا تَعَالَى بِبَعْضِ فَضْلِهِ فِي تَسْخِيرِ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ الَّتِي تُرَى صَغِيرَةً بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِبَعْضِ فَضْلِهِ فِي النَّيِّرَيْنِ الْأَكْبَرَيْنِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي عُمُومِ النُّجُومِ لِأَنَّ الْقَمَرَ مِمَّا يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ، فَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ بَعْضَ لَيَالِي الشَّهْرِ قُلْنَا: وَأَيُّ نَجْمٍ يُهْتَدَى بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؟ وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي بَدَاوَتِهَا تُؤَقِّتُ بِطُلُوعِ النَّجْمِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَ السَّنَةِ بِالْأَنْوَاءِ، وَهِيَ نُجُومُ الْقَمَرِ فِي مَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا - وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ - وَقَدْ سَمَّوُا الْوَقْتَ الَّذِي يَجِبُ الْأَدَاءُ فِيهِ " نَجْمًا " تَجُوُّزًا ; لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، ثُمَّ سَمَّوُا الْمَالَ الَّذِي يُؤَدَّى نَجْمًا وَقَالُوا: نَجَّمَهُ إِذَا جَعَلَهُ أَقْسَاطًا. وَفِي الظُّلُمَاتِ هُنَا وَجْهَانِ ظُلُمَاتُ اللَّيْلِ بِالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَأَضَافَهُمَا إِلَيْهَا لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمَا، أَوْ مُشْتَبِهَاتِ الطُّرُقِ شَبَّهَهَا بِالظُّلُمَاتِ قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. وَكَانَ اهْتِدَاؤُهُمْ بِالنُّجُومِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مِنَ السَّنَةِ، وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ الْمَسَالِكِ وَالطُّرُقِ وَالْجِهَاتِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الظُّلُمَاتِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ " ٦٣ " مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَهَاهُنَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ النُّجُومِ الَّذِي يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ
مَا سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْأَحْدَاثِ قَبْلَ حُدُوثِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فَأَطْلَقَ النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ النُّجُومِ إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ وَيُعْرَفُ بِهِ الْحِسَابُ، وَيَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِبَارُ بِزِينَةِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هِيَ الَّتِي هَدَى إِلَيْهَا الْكِتَابُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ تِلْكَ الْأَوْهَامُ الَّتِي يَزْعُمُونَ مَعْرِفَةَ الْغَيْبِ بِهَا دُونَ عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَا يُعْرَفُ مِنْ عِلْمٍ آخَرَ، وَقَدِ اتَّسَعَ هَذَا الْعِلْمُ فِي عَصْرِنَا هَذَا بِمَا اسْتَحْدَثَ أَهْلُهُ مِنَ الْمَرَاصِدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute