للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالرِّبِّيُّونَ قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُمُ الرَّبَّانِيُّونَ " وَقُرِئَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، فَالْفَتْحُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ " وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّبَّانِيِّينَ فِي آيَةِ ٧٩ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ جَمْعُ رَبَّانِيٍّ نِسْبَةً إِلَى الرَّبِّ، وَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِيهَا كَزِيَادَتِهَا فِي جُسْمَانِيٍّ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْكَشَّافِ " مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ " مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُغَيِّرُ الِاسْمَ الْمَنْسُوبَ، كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ بِصْرِيٌّ بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَإِلَى الدَّهْرِ دُهْرِيٌّ بِضَمِّ الدَّالِ. وَقَالَ الْفَرَاءُ: الرِّبِّيُّونَ الْأَوَّلُونَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمُ الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ وَأَحَدُهَا رِبِّيٌّ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُهُ مِنَ الرِّبَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبَّانِيُّونَ الْأَئِمَّةُ وَالْوُلَاةُ، وَالرِّبِّيُّونَ الرَّعِيَّةُ وَهُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الرَّبِّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ. وَالِاسْتِكَانَةُ: ضَرْبٌ مِنَ الْخُضُوعِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سُكُونِ الْإِنْسَانِ لِخَصْمِهِ لِيَفْعَلَ بِهِ مَا يُرِيدُ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ خَلَوْا قَدْ قَاتَلَ مَعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى فِي وِجْهَةِ قُلُوبِهِمْ وَفِي أَعْمَالِهِمْ، الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ هُدَاةٌ وَمُعَلِّمُونَ لَا أَرْبَابٌ مَعْبُودُونَ، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيْ مَا ضَعُفَ مَجْمُوعُهُمْ بِمَا أَصَابَ بَعْضَهُمْ مِنَ الْجُرْحِ وَبَعْضَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ هُوَ النَّبِيَّ نَفْسَهُ ; لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ رَبُّهُمْ لَا فِي سَبِيلِ شَخْصِ نَبِيِّهِمْ، وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ مِنْ نَبِيِّهِمْ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَبِّهِمْ وَبَيَانُهُ لِهِدَايَتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [١٨: ٥٦] وَمَا ضَعُفُوا عَنْ جِهَادِهِمْ وَلَا اسْتَكَانُوا وَلَا وَلَّوْا بِالِانْقِلَابِ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، بَلْ ثَبَتُوا بَعْدَ قَتْلِ نَبِيِّهِمْ كَمَا ثَبَتُوا مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ ; لِأَنَّ عِلَّةَ الثَّبَاتِ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ كَوْنُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يَرْضَاهَا اللهُ كَحِفْظِ الْحَقِّ وَحِمَايَتِهِ وَتَقْرِيرِ الْعَدْلِ وَإِقَامَتِهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " قُتِلَ مَعَهُ " ; وَلِذَلِكَ رُسِمَتِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلْفٍ لِتَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيِ اسْتُشْهِدُوا فِي الْقِتَالِ مَعَهُ أَوْ قُتِلُوا كَمَا قُتِلَ هُوَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ فِي الْحَرْبِ، وَهُوَ نَفْيٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَا سِيَّمَا فِي النَّبِيِّينَ غَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ

ذَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالرُّسُلِ عِلْمًا وَاللهُ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [٤: ١٦٤] وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَوْلُ قَتَادَةَ: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا عَجَزُوا وَمَا تَضَعْضَعُوا لِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ، وَمَا اسْتَكَانُوا أَيْ مَا ارْتَدُّوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ وَلَا عَنْ دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَمَا وَهَنُوا لِقَتْلِ النَّبِيِّ وَمَا ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَكَانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ عَنِ اللهِ لِلنَّاسِ وَعَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حُبِّ اللهِ لِلنَّاسِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ أَمْثَالَهُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْتَبِرُوا بِحَالِهِمْ، فَإِنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ، وَسُنَّتَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>