للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَسُورَةِ التَّوْبَةِ - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - فَاللهُ تَعَالَى يَحْكُمُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا تَنْسَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

ثُمَّ إِنَّ فِي الْآيَةِ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَافِرِ أَنْ يَزْدَادَ كُفْرًا بِطُولِ الْعُمُرِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وَبِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَيُقَابِلُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا طَالَ عُمُرُهُ كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ، وَازْدَادَتْ خَيْرَاتُهُ، فَعَسَى أَنْ يَتَّخِذَ هَذَا مِيزَانًا مِنْ مَوَازِينِ الْإِيمَانِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَذْهَبُ بِالْغُرُورِ، وَيُخْرِجُ الَّذِي فَقِهَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّمَا الْأُولَى الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ مُتَّصِلَةً " أَنَّ " فِيهَا " مَا " اتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَيَجِبُ بِحَسَبِ فَنِّ الرَّسْمِ فَصْلُهَا، وَ " مَا " هَذِهِ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى " الَّذِينَ " إِلَّا بِتَأْوِيلٍ كَتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوْ حَالٍ، وَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إِلَى تَرْجِيحِ الْبَدَلِيَّةِ، وَقَالُوا فِيهِ: إِنَّ الْبَدَلَ مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَهُنَا لَا يَصِحُّ الِاسْتِغْنَاءُ. وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ عَدَمَ الِاسْتِغْنَاءِ مُتَعَيِّنٌ فِي الْمَعْنَى لَا فِي اللَّفْظِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَقَالَ: الْحَقُّ أَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِي أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةِ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي الْمَصْدَرِ نَفْسِهِ، وَلَا حَاجَةَ فِي الْآيَةِ إِلَى تَقْدِيرٍ.

أَقُولُ: وَفِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ التَّفَنُّنُ فِي وَصْفِ الْعَذَابِ بَيْنَ عَظِيمٍ، وَأَلِيمٍ، وَمُهِينٍ، وَالْأَلِيمُ: ذُو الْأَلَمِ، وَالْمُهِينُ: ذُو الْإِهَانَةِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَتَوَارَدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مُنَاسَبَةَ كُلِّ وَصْفٍ لِآيَتِهِ، كَكَوْنِ الْجَزَاءِ بِالْعَظِيمِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي

الْكُفْرِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسَارَعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْعَظَائِمِ، وَبِالْأَلِيمِ عَلَى شِرَاءِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَغْبُونَ يَتَأَلَّمُ، وَبِالْمُهِينِ عَلَى ازْدِيَادِ الْإِثْمِ بِالْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ مَنِ ازْدَادُوا إِثْمًا مَا كَانُوا يَطْلُبُونَ إِلَّا الْعِزَّ وَالْكَرَامَةَ.

مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قَرَأَ حَمْزَةُ: " يُمَيِّزَ " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا مِنْ مَازَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مُسْتَرْسِلًا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَمَا بَعْدَهَا، وَجَاءَ فِي السِّيَاقِ بَيَانُ حَالِ مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، وَضَعْفُهُمْ، وَبَيَانُ حَالِ الْمُجَاهِدِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَمَنْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ، وَحَالِ الْكُفَّارِ الْمُهَدِّدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَوْنُ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ أَشَدَّ وَقْعَةٍ أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ عَقِبَهَا بِأَلَمِ الْغَلَبِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ بَوَادِرِ النَّصْرِ فِي " بَدْرٍ "، وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ فِيهَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبَيَّنَ ضَعْفُ نُفُوسِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِنَايَةُ اللهِ - تَعَالَى - بِبَيَانِ فَوَائِدِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا عَظِيمَةً. وَمِنْهَا خَتْمُهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِسُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْآيَاتِ الْحَكِيمَةِ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>