أَنْ يَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ حُدُوثِ غَزْوَةِ أُحُدٍ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَكَيْفَ كَانُوا؟
كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَمْتَثِلُونَ كُلَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُ إِرْسَالُ السَّرَايَا الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِيهَا مَخَاوِفُ كَبِيرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ فِيهَا الصَّادِقُ بِالْمُنَافِقِ بِلَا تَمْيِيزٍ ; إِذِ التَّمَايُزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالشَّدَائِدِ، أَمَّا الرَّخَاءُ، وَالْيُسْرُ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ - كَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ الْقَلِيلَةِ - فَكَانَ يَقْبَلُهُ الْمُنَافِقُونَ كَالصَّادِقِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ مَعَ التَّمَتُّعِ بِمَزَايَا الْإِسْلَامِ، وَفَوَائِدِهِ، وَرُبَّمَا خَدَعَ الشَّيْطَانُ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِتَرْغِيبِهِ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادَاتِ السَّهْلَةِ - وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي دِينٍ جَدِيدٍ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الظَّاهِرِ مَدْعَاةُ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ.
الشَّدَائِدُ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَوِيِّ فِي الْإِيمَانِ وَالضَّعِيفِ فِيهِ، فَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ ضَعِيفَ الْعَزِيمَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ قَوِيِّهَا، وَتُزِيلُ الِالْتِبَاسَ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ كَبِيرَةٌ:
مِنْهَا أَنَّ الصَّادِقَ قَدْ يُفْضِي بِبَعْضِ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ إِلَى الْمُنَافِقِ لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ وَالِانْخِدَاعِ بِأَدَاءِ الْمُنَافِقِ لِلْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَمُشَارَكَتِهِ لِلصَّادِقِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا عَرَفَهُ اتَّقَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنْ تَعْرِفَ الْجَمَاعَةُ وَزْنَ قُوَّتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ ; لِأَنَّهَا بِانْكِشَافِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَهَا تَعْرِفُ أَنَّهُمْ عَلَيْهَا لَا لَهَا، وَبِانْكِشَافِ حَالِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُرَبِّهِمُ الشِّدَّةُ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ لَا عَلَيْهَا وَلَا لَهَا. هَذَا بَعْضُ مَا تَكْشِفُهُ الشِّدَّةُ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ ضَرَرِ الِالْتِبَاسِ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَإِنَّهَا تَكْشِفُ لَهُمْ حُجُبَ الْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ ; فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ قَدْ يَغْتَرُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنَ الضَّعْفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى مَكَانُهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى تُظْهِرَهُ الشَّدَائِدُ.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّبْسُ ضَارًّا بِالْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللهِ وَلَا مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ فِي عِبَادِهِ مَا يَضُرُّهُمْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَتَظْهَرَ الْخَفَايَا، وَتُبْلَى السَّرَائِرُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الِالْتِبَاسُ، وَيَتَّضِحَ الْمَنْهَجُ السَّوِيُّ لِلنَّاسِ.
قَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ أَقْرَبَ وَسِيلَةٍ لِرَفْعِ اللَّبْسِ هِيَ أَنْ يُطْلِعَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْغَيْبِ فَيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَحَقَائِقَ النَّاسِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا مَنْ سُنَنِهِ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ، فَقَالَ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ إِطْلَاعُ النَّاسِ عَلَى الْغَيْبِ ; لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَخْرَجَ بِهِ الْإِنْسَانَ عَنْ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الْإِنْسَانَ نَوْعًا عَامِلًا يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَغَائِبِهِ، وَيَدْفَعُ جَمِيعَ مَكَارِهِهِ بِالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي تُرْشِدُهُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَهَدْيُ النُّبُوَّةِ ; وَلِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يُزِيلَ هَذَا اللَّبْسَ وَيَمِيزَ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ بِالشَّدَائِدِ، وَمَا تَتَقَاضَاهُ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَرْوَاحِ فِي سَبِيلِهِ الَّتِي هِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ لَا سَبِيلَ الْهَوَى، كَمَا ابْتَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute