الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعِهِ أُحُدٍ بِجَيْشٍ عَظِيمٍ، وَابْتَلَاهُمْ بِاخْتِيَارِ الْخُرُوجِ لِمُحَارَبَتِهِ، وَابْتَلَى الرُّمَاةَ مِنْهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ، وَإِخْلَاءِ ظُهُورِ قَوْمِهِمْ لِعَدُوِّهِمْ، ثُمَّ ابْتَلَاهُمُ بِظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى مَا ذَكَرَ حَتَّى ظَهَرَ نِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ، وَزِلْزَالُ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَبَاتُ كَمَلَةِ الْمُوقِنِينَ.
وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ أَيْ يَصْطَفِيهِمْ فَيُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ
الْغَيْبِ، وَهُوَ مَا فِي تَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ مَصْلَحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَصِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبَعْضِ شُئُونِهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْغَيْبُ الَّذِي أُمِرَ الْمُكَلَّفُونَ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَمُدِحُوا عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [٢: ١ - ٣] أَقُولُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ أَنَّ مَنْ يَجْتَبِيهِمْ مِنْ رُسُلِهِ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِعِبَادِهِ مَنْ خَبَرِ الْغَيْبِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ [٧٢: ٢٦ - ٢٨] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مُتَضَمِّنًا لِلْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ إِنْ أَنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ، وَقَرَنْتُمْ بِالْإِيمَانِ تَقْوَى اللهِ - تَعَالَى - بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ.
لَزُّ التَّقْوَى هَاهُنَا مَعَ الْإِيمَانِ فِي قَرَنٍ، وَتَرْتِيبُ الْأَجْرِ عَلَيْهِمَا مَعًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآيِ الْكَثِيرَةِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَهِيَ أَظْهَرُ، وَأَشْهَرُ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهَا بِالشَّوَاهِدِ كُلَّمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَقَدْ ذَهَبَ وَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اجْتَبَاهُمُ اللهُ مِنْ رُسُلِهِ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كُلَّهُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ عِلْمَ السَّاعَةِ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي عِلْمَهَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَطْلَعَهُ عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ قَبْلَ وَفَاتِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [٦: ٥٠] هَذَا مَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ خَلْقَهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَى نَبِيِّنَا، وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [١١: ٣١] فَهُمْ كَانُوا يَنْفُونَ أَنْ يَكُونُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي خَزَائِنِ اللهِ بِالْإِعْطَاءِ، وَالْمَنْعِ، وَأَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَأَنْ يَكُونُوا مَلَائِكَةً، أَيْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ
الْبَشَرِ. وَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ الْغَيْبَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٧: ١٨٨] ، وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [٦: ٥٩]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute