للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (٤: ١٦٠) كَأَنَّهُ قَالَ: فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَبِكُفْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِيسَى، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى أُمِّهِ، وَتَبَجُّحِهِمْ بِدَعْوَى قَتْلِهِ، وَبِظُلْمِهِمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَحْكَامِهِمْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ إِلَخْ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ إِلَخْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَمِثْلُ هَذَا مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ إِذَا طَالَ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيمَ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الَّتِي مِنْهَا قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَهْتُ الْمَسِيحِ وَوَالِدَتِهِ

الْعَذْرَاءِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ عِقَابٌ قَلِيلٌ لَا يُقَابِلُ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ كُلِّهَا. بَلْ هُوَ قَلِيلٌ عَلَى أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَهُوَ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً عَلَى مَا دُونَ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ فَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ " غُلْفٌ " جَمْعُ " أَغْلَفٍ " وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ نُفُوذَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ أَيْ إِنَّ قُلُوبَهُمْ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ; فَهِيَ لَا تُدْرِكُهُ، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ (٤١: ٥) .

وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَمْعُ غِلَافٍ (كَكِتَابٍ، وَكُتُبٍ) وَسُكِّنَتِ اللَّامُ فِيهِ كَمَا تُسَكَّنُ فِي الْكُتُبِ، وَالرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ وَغُلْفٌ لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ ; فَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ جَدِيدٍ تَسْتَفِيدُهُ مِنَ الرَّسُولِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ هَذَا الزَّعْمَ بِقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ أَيْ لَيْسَ مَا وَصَفُوا بِهِ قُلُوبَهُمْ هُوَ الْحَقَّ الْوَاقِعَ. بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ; أَيْ كَانَ كُفْرُهُمُ الشَّدِيدُ وَمَا لَهُ مِنَ الْأَثَرِ الْقَبِيحِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، سَبَبًا لِلطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَيْ جَعْلِهَا كَالسَّكَّةِ الْمَطْبُوعَةِ، (الدَّرَاهِمِ مَثَلًا) فِي قَسْوَتِهَا، وَتَكَيُّفِهَا بِطَبْعَةٍ خَاصَّةٍ لَا تَقْبَلُ غَيْرَهَا مِنَ النُّقُوشِ ; فَهُمْ بِجُمُودِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ التَّقْلِيدِيِّ، وَلَوَازِمِهِ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ آخَرَ نَظَرَ اسْتِدْلَالٍ وَاعْتِبَارٍ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِيهِ تَأَمُّلَ الْإِخْلَاصِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي يَنَالُهَا كَسْبُهُمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهَا اخْتِيَارُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْتَارُونَ إِلَّا مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ لَمْ يُبْصِرْ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ لَمْ يُؤْمِنْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْإِيمَانِ ; كَإِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَهُوَ إِيمَانٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ; كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ.

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا - كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَرِينَةِ - الْكُفْرُ بِعِيسَى ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>