للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي خَلْقِهِ وَاحِدَةٌ ; وَلِذَلِكَ هُدِيتُمْ إِلَى السُّنَنِ وَأُمِرْتُمْ بِمَعْرِفَةِ عَاقِبَةِ مَنْ سَبَقَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَاقْتَدُوا بِعَمَلِ الصَّادِقِينَ الصَّابِرِينَ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِ أُولَئِكَ الرِّبِّيِّينَ:

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي اعْتَصَمُوا فِيهَا بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَعِزَّةِ النَّفْسِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ إِلَّا ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمُنْبِئُ عَنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَصِدْقِ إِرَادَتِهِمْ، وَهُوَ الدُّعَاءُ بِأَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ بِجِهَادِهِمْ مَا كَانُوا أَلَمُّوا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالتَّقْصِيرِ فِي إِقَامَةِ السُّنَنِ، أَوِ الْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّدَتْهُ الشَّرَائِعُ، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا بِالْغُلُوِّ فِيهِ، وَتَجَاوُزِ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا السُّنَنُ لَهُ وَثِبِّتْ أَقْدَامَنَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَيْتَنَا إِلَيْهِ حَتَّى لَا تُزَحْزِحَنَا عَنْهُ الْفِتَنُ، وَفِي مَوْقِفِ الْقِتَالِ، حَتَّى لَا يَعْرُونَا الْفَشَلُ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ بِكَ، الْجَاحِدِينَ لِآيَاتِكَ، الْمُعْتَدِينَ عَلَى أَهْلِ دِينِكَ، فَلَا يَشْكُرُونَ لَكَ نِعَمَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَلَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يُمَكِّنُونَ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ إِقَامَةِ مِيزَانِ الْقِسْطِ، فَإِنَّ النَّصْرَ بِيَدِكَ، تُؤْتِيهِ مَنْ تَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْإِسْرَافَ فِي الْأُمُورِ مِنْ أَسْبَابِ الْبَلَاءِ وَالْخِذْلَانِ، وَأَنَّ الطَّاعَةَ وَالثَّبَاتَ وَالِاسْتِقَامَةَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالْفَلَاحِ ; وَلِذَلِكَ سَأَلُوا اللهَ أَنْ يَمْحُوَ مِنْ نُفُوسِهِمْ أَثَرَ كُلِّ ذَنْبٍ وَإِسْرَافٍ، وَأَنْ يُوَفِّقَهُمْ إِلَى دَوَامِ الثَّبَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّوَجُّهَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مِمَّا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ الْمُجَاهِدَ قُوَّةً وَعَزِيمَةً وَمُصَابَرَةً لِلشَّدَائِدِ ; وَلِذَلِكَ يَعْتَرِفُ عُلَمَاءُ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ

بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدُّ صَبْرًا وَثَبَاتًا فِي الْقِتَالِ مِنَ الْجَاحِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ [٢: ٢٥٠] الْآيَةَ.

فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ، وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِزَّةِ، وَحُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ وَشَرَفِ الذِّكْرِ وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِنَيْلِ رِضْوَانِ اللهِ وَقُرْبِهِ، وَالنَّعِيمِ بِدَارِ كَرَامَتِهِ، وَهُوَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ - أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [٣٢: ١٧] وَمَا آتَاهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِحُسْنِ إِرَادَتِهِمْ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنْ حُسْنِ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، إِذَا أَتَوُا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَبَّوُا الْمَقَاصِدَ بِأَسْبَابِهَا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ يُقِيمُونَ سُنَّتَهُ، وَيُظْهِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ حِكْمَتَهُ، فَيَكُونُ عَمَلُهُمْ لِلَّهِ بِاللهِ كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْعَبْدِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا " أَيْ إِنَّ مَشَاعِرَهُ وَأَعْمَالَهُ لَا تَكُونُ مَشْغُولَةً إِلَّا بِمَا يُرْضِي اللهَ وَيُقِيمُ سُنَنَهُ وَيُظْهِرُ حِكَمَهُ فِي خَلْقِهِ.

وَإِنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَحُسْنِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِعَمَلِهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا

<<  <  ج: ص:  >  >>