للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِهَا، وَبَدَأَ ابْنُ خَلْدُونَ بِجَعْلِهِ عِلْمًا مُدَوَّنًا يَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَلَكِنِ اسْتَفَادَ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا كَتَبَهُ فِي ذَلِكَ وَبَنَوْا عَلَيْهِ وَوَسَّعُوهُ فَكَانَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي سَادُوا بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهُ كَمَا كَانَ يَجِبُ ; لِأَنَّهُ كُتِبَ فِي طَوْرِ تَدَنِّيهِمْ وَانْحِطَاطِهِمْ، بَلْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ الْعُلْيَا فِي إِقَامَةِ أَمْرِ مُلْكِهِمْ وَحَضَارَتِهِمْ عَلَى مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيمَنْ قَبْلَهُمْ. وَلَا يَزَالُونَ مُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا الرُّشْدِ وَالْهِدَايَةِ عَلَى شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا بِسَبَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ تَنَازُعُ الْبَقَاءِ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَإِنَّا نَرَى بَعْضَهُمْ يُعَزِّي نَفْسَهُ عَنْ ضَعْفِ أُمَّتِهِ وَيَعْتَذِرُ عَنْ تَقْصِيرِهَا بِالْقَدْرِ الَّذِي يَفْهَمُهُ مَقْلُوبًا بِمَعْنَى الْجَبْرِ أَوْ يُسَلِّيهَا بِأَنَّ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ وَارْتَكَسَ بَعْضُهُمْ فِي حَمْأَةِ جَهْلِهِ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى ارْتَدُّوا عَنْهُ سِرًّا أَوْ جَهْرًا زَاعِمِينَ أَنَّ تَعَالِيمَهُ هِيَ الَّتِي أَضْعَفَتْهُمْ وَأَضَاعَتْ عَلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، وَالْتَمَسُوا هِدَايَةً غَيْرَ هِدَايَتِهِ لِيُقِيمُوا بِهَا دُنْيَاهُمْ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أَيْ وَلِكُلٍّ مِنْ مَعْشَرَيِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ دَرَجَاتٌ وَمَنَازِلُ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهِمْ فِيهَا (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِهِ وَمُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ. فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، وَيُضَاعِفُ اللهُ الْحَسَنَاتِ دُونَ السَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّ الْفَضْلَ مَا كَانَ فَوْقَ

الْعَدْلِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ آخِرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْكَافِرُونَ عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ - فَالدَّرَجَاتُ بِمَعْنَى الدَّرَكَاتِ كَالدَّرْجِ وَالدَّرْكِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْخَيْرِ وَجَزَائِهِ، وَالثَّانِي فِي مُقَابِلِهِ وَمِنْهُ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٤: ١٤٥) وَالرَّاغِبُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الدَّرْجَ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالدَّرْكَ بِاعْتِبَارِ الْحُدُورِ وَالْهُبُوطِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا كِلَاهُمَا عَامًّا لِفَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ الدَّرَجَاتِ مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَشَذَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُسْلِمِي الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ ثَوَابٌ، وَأَشَدُّ مِنْهُ شُذُوذًا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ نَقَلَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَلَيْثٌ هَذَا مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَقَدِ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَلَعَلَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَغَيْرَهُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ.

هَذَا وَإِنَّنَا وَإِنْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُبَطِلَةٌ لَلَقَوْلِ بِالْجَبْرِ الْبَاطِلِ الْهَادِمِ لِلشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ الَّذِي أَلْبَسُوهُ ثَوْبَ الْقَدَرِ الثَّابِتِ بِالْعِلْمِ الْمُؤَيِّدِ لِلْقُرْآنِ، فَإِنَّنَا نَرَى أَنْ نُصَرِّحَ بِأَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - قَدْ صَرَّحَ فِي تَفْسِيرِهَا بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ وَأَنْ نَذْكُرَ عِبَارَتَهُ بِنَصِّهَا وَنُبَيِّنَ بُطْلَانَهَا وَإِنْ سَبَقَ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهَا مَنْ يَنْخَدِعُ بِلَقَبِهِ وَكِبَرِ شُهْرَتِهِ قَالَ:

" اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>