الْمُنْفَصِلَةَ تَجِيءُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَجِيءُ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَبَعْدَ أَنْ مَثَّلَ لَهُمَا قَالَ: وَبِمَنْزِلَةِ (أَمْ) هُنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) (٣٢: ١ - ٣) فَجَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ لِيَعْرِفُوا ضَلَالَتَهُمْ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَمِثْلُ ذَلِكَ - قَوْلُهُ: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) (٤٣: ١٦) فَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ لِيُبْصِرُوا ضَلَالَتَهُمُ اهـ.
وَفَسَّرَ (الْجَلَالُ) (لَمَّا) بِـ ((لَمْ)) وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَلْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ ((لَمَّا)) لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْبَاتِ الْمُؤَكَّدِ، كَأَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: إِنَّ فُلَانًا جَاءَ فَنَقُولُ: لَمَّا يَجِئْ، وَهَذَا قَدْ يَصِحُّ فِي الْآيَةِ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَأْكِيدِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحُسْبَانِهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَأْتِهِمْ بَعْدُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ ((لَمَّا)) لِلنَّفْيِ مَعَ تَوَقُّعِ الْحُصُولِ، وَلَمْ لِلنَّفْيِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَفِي الْمُغْنِي: إِنَّ ((لَمَّا)) تُفَارِقُ ((لَمْ)) فِي خَمْسَةِ أُمُورٍ فَتُرَاجَعُ هُنَاكَ.
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)
قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (٢: ١٧٢) إِلَخْ. إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى تِلْكَ الْآيَةِ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِنَّ تِلْكَ الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) (٢: ٢٤٣) فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، ثُمَّ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقُلْنَا: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّنَاسُبِ بَيْنَ كُلِّ آيَةٍ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَيَظْهَرُ هَذَا أَتَمَّ الظُّهُورِ إِذَا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الْمَسْرُودَةُ أَجْوِبَةً لِأَسْئِلَةٍ وَرَدَتْ، أَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَرِدَ لِلْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا كَهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ الْتِحَامِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالْتِئَامِهَا غَرِيبٌ، حَتَّى فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَظْهَرُ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنْ لَا تَنَاسُبَ بَيْنَهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) إِلَخْ، مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ فِي الْمَغْزَى; فَإِنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حُبَّ النَّاسِ لِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِالشِّقَاقِ وَالْخِلَافِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ وَالدِّينِ هُمُ الَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَمِنْهَا مَا يُصِيبُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يُرَغِّبُ الْإِنْسَانَ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute