للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِالْقِسْطِ لِأَنَّ الْعَدْلَ حِفَاظُ النِّظَامِ وَقِوَامُ أَمْرِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَعَدَمُ مُحَابَاةِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ لِغِنَاهُ، أَوْ مُرَاعَاتِهِ لِفَقْرِهِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ وَالْحَقَّ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ وَحُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ مُحَابَاةُ الْأَقْرَبِينَ مَعْهُودَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّ أَمْرَهُمْ قَائِمٌ بِالْعَصَبِيَّةِ، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَانَ يَنْصُرُ قَوْمَهُ وَأَهْلَ عَصَبِيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَزُّ بِهِمْ، كَمَا يَظْلِمُ النِّسَاءَ وَالْيَتَامَى لِضِعْفِهِنَّ، وَعَدَمِ الِاعْتِزَازِ بِهِنَّ، فَحَظْرُ اللهِ مُحَابَاةَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ أَهْلَهُ وَإِعْطَاءَهُمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُقَابِلُ حَظْرَ ظُلْمِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى هُنَاكَ وَهَضْمَ مَا لَهُنَّ مِنَ الْحَقِّ، رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانَتِ الْبَقَرَةُ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ، ثُمَّ أَرْدَفَتْهَا سُورَةُ النِّسَاءِ قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ قِبَلَ ابْنِهِ أَوِ ابْنِ عَمِّهِ أَوْ ذَوِي رَحِمِهِ فَيَلْوِي بِهَا لِسَانَهُ أَوْ يَكْتُمُهَا مِمَّا يَرَى مِنْ عُسْرَتِهِ حَتَّى يُوسَرَ فَيَقْضِيَ فَنَزَلَتْ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، فَتَأَمَّلَ كَيْفَ بَقِيَ تَأْثِيرُ الْمُحَابَاةِ فِيهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ! .

الْقَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْعَدْلَ بِالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا وَأَدُوَمِهَا فَإِنَّ قَوَّامِينَ، جَمْعُ قَوَّامٍ وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ، وَالْقِيَامُ بِالشَّيْءِ

هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُسْتَوِيًا تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ، لِتَأْكِيدِ الْعِنَايَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ بَنَى جِدَارًا مَائِلًا أَوْ نَاقِصًا لَا يُقَالُ إِنَّهُ أَقَامَ الْبِنَاءَ أَوْ أَقَامَ الْجِدَارَ، قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ (١٨: ٧٧) .

وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْجِدَارُ إِلَى الْإِقَامَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَائِلًا مُتَدَاعِيًا لِلسُّقُوطِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْكِيدِ أَمْرِ الْعَدْلِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ مُطْلَقًا يَكُونُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ تَقُولُ: اعْدِلُوا وَأَقْسِطُوا، وَتَقُولُ: كُونُوا عَادِلِينَ أَوْ مُقْسِطِينَ، وَهَذِهِ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهَا أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الصِّفَةِ لَا بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالْقِسْطِ الَّذِي يَصْدُقُ بِمَرَّةٍ، وَتَقُولُ: أَقِيمُوا الْقِسْطَ وَأَبْلَغُ مِنْهُ: كُونُوا قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ: لِتَكُنِ الْمُبَالَغَةُ وَالْعِنَايَةُ بِإِقَامَةِ الْقِسْطِ عَلَى وَجْهِهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِكُمْ بِأَنْ تَتَحَرَّوْهُ بِالدِّقَّةِ التَّامَّةِ حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً رَاسِخَةً فِي نُفُوسِكُمْ، وَالْقِسْطُ يَكُونُ فِي الْعَمَلِ كَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ، وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ مِمَّنْ يُوَلِّيهِ السُّلْطَانُ أَوْ يُحَكِّمُهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ أَعْدَلَ الْأُمَمِ وَأَقْوَمَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا عِنْدَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ بِالْقُرْآنِ، وَصَدَقَ عَلَى سَلَفِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (٧: ١٨١) ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ أُولَئِكَ السَّلَفِ خَلْفٌ نَبَذُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ جَمِيعُ الْأُمَمُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِظُلْمِ حُكَّامِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ، وَتَفْخَرُ عَلَيْهِمْ بِالْعَدْلِ بَلْ صَارَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ يَلْتَمِسُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْقِسْطَ، وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>