للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ يَعْظُمُ رَجَاؤُهُ بِاللهِ وَصَبْرُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَرِضَاهُ بِقَضَائِهِ، وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ مَا ابْتَلَاهُ إِلَّا لِيُرَبِّيَهُ وَيُعَظِّمَ أَجْرَهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْنَسُ بِالْمُصِيبَةِ وَيَتَلَذَّذُ بِهَا، وَهَذَا قَلِيلٌ نَادِرٌ وَلَكِنَّهُ وَاقِعٌ.

وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لِتَنْبِيهِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِإِنْفَاقِهِ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِعِلْمِ النَّاسِ، فَهُوَ الَّذِي لَا يَنْسَى عَمَلَ عَامِلٍ وَلَا يَظْلِمُهُ مِنْ أَجْرِهِ عَلَيْهِ شَيْئًا وَهُوَ الَّذِي يُسَخِّرُ الْقُلُوبَ لِمَنْ شَاءَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْ لَمْ يَنْزِلْ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِلَّا هَذِهِ الْآيَاتُ وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَى قَوْلِهِ: عَلِيمًا لَكَانَتْ كَافِيَةً لِهِدَايَةِ مَنْ لَهُ قَلْبٌ يَشْعُرُ وَعَقْلٌ يُفَكِّرُ، ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ تَقْصِيرَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ، وَذَكَرَ مِنْ حَالِ النَّاسِ فِي مُعَامَلَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْجِيرَانِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ مَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ الْإِسْلَامُ، وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ مُشَاهَدٌ مَعْرُوفٌ، وَأَيْنَ الْمُعْتَبِرُونَ الْمُتَّعِظُونَ؟

إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا.

قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ مُبَيِّنًا وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا: وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ قَالَ مُعَلِّلًا لَهُ: إِنَّ اللهَ إِلَخْ، وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا إِلَخْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا، فَرَغَّبَ بِذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ اهـ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى صِفَاتِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَسُوءَ حَالِهِمْ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ الْأَمْرَ تَأْكِيدًا وَوَعِيدًا، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنَ الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بَلْ يُوَفِّيهِ حَقَّهُ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، فَالْآيَةُ تَتْمِيمٌ لِمَوْضُوعِ الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ وَتَرْغِيبٌ لِلْعَامِلِينَ فِي الْخَيْرِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٩٩: ٧) ، إِلَخْ، فَمَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِي الْخَيْرِ، وَرَجَاؤُهُ فِي اللهِ تَعَالَى.

(قَالَ) : وَلِلْعَابِثِينَ بِالْكِتَابِ وَبِعَقَائِدِ النَّاسِ كَلَامٌ فِي الْآيَةِ، وَأَقَامُوهُ عَلَى أَسَاسِ مَذَاهِبِهِمْ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ يَجُوزُ الظُّلْمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى (عَقْلًا) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا تَمَدَّحَ بِنَفْيِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْآخَرُونَ، بِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى عَنْ نَفْسِهِ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ، وَأَنْتُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ كَلَامٌ فِي أَفْعَالِهِ، وَنَفْيَ النَّوْمِ كَلَامٌ فِي صِفَاتِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>