يَكُونُوا مِنَ الْغَاوِينَ، لَا خَلْقُهُ لِلْغَوَايَةِ فِيهِمْ جُزَافًا أَنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ) أَيِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَا كَسْبٍ مِنْهُمْ لِأَسْبَابِهِ، فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ مُقَدَّرَةً بِأَقْدَارِهَا، تَرْتَبِطُ أَسْبَابُهَا بِمُسَبَّبَاتِهَا وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ يُغْوِيَكُمْ بِيُهْلِكَكُمْ بِعَذَابِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْغَيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا) (١٩: ٥٩) وَحُكِيَ عَنْ طِيِّءٍ قَوْلُهُمْ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا، إِذَا أَصْبَحَ مَرِيضًا، وَأَصْلُ الْغَيِّ فَسَادُ الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ مِنْ كَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ سُوئِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ وَبَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الْفَسَادِ الْمَعْنَوِيِّ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِي الْجَهْلِ وَكُلِّ مَا يُنَافِي الرُّشْدِ، وَالْقَرَائِنُ هِيَ الَّتِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الْمَعَانِي عَلَى بَعْضٍ، وَمُوَافَقَةُ سُنَنِ اللهِ وَأَقْدَارِهِ شَرْطٌ فِي الْكُلِّ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ فِي اخْتِلَافِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُطْلَقًا، وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
(هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أَيْ هُوَ مَالِكُ أُمُورِكُمْ وَمُدَبِّرُهَا وَمُسَيِّرُهَا عَلَى سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ قَدَرٌ، وَلِكُلِّ قَدَرٍ أَجَلٌ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا لَا يَظْلِمُ أَحَدًا.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي قِصَّةِ نُوحٍ حِكَايَةً لِقَوْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّذِي تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مُقْتَضَى لِاعْتِرَاضِهَا فِي وَسَطِهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمَلِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَآيَتَيِ الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي أَثْنَاءِ مَوْعِظَةِ لُقْمَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ سُورَتِهِ وَهُمَا: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) (٣١: ١٤) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَبَعْدَهَا: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) (١٦ إِلَخْ) وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ (٥٣ - ٥٥) ((مِنْ سُورَةِ طه ٢٠)) قَالُوا: إِنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ فِي الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِرْعَوْنَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ. وَلِلْجُمَلِ وَالْآيَاتِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي الْقُرْآنِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ يَقْتَضِيهَا تَلْوِينُ الْخِطَابِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ، وَمَنْعِ السَّآمَةِ وَتَجْدِيدِ النَّشَاطِ فِي الِانْتِقَالِ، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ ; فَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ هُنَا أَنْ يَخْطُرَ فِي بَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ سَمَاعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ كَمَا زَعَمُوا، لِاسْتِغْرَابِهِمْ هَذَا السَّبْكَ فِي الْجِدَالِ وَالْقُوَّةَ فِي الِاحْتِجَاجِ، وَأَنْ يَصُدَّهُمْ هَذَا عَنِ اسْتِمَاعٍ، فَيَكُونَ إِيرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ تَجْدِيدًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلِنَشَاطِهِمْ، وَأَعْظِمْ بِوَقْعِهَا فِي قُلُوبِهِمْ إِذَا كَانَ هَذَا الْخَاطِرُ عَرَضَ لَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute