وَقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْأَرْزَاقِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْخَلْقُ الْإِبَاحَةَ، وَقَاعِدَةِ كَوْنِ انْتِحَالِ الْعَبِيدِ حَقَّ التَّشْرِيعِ
الْخَاصِّ بِرَبِّهِمُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ وَكُفْرًا بِهِ، يَسْتَحِقُّ فَاعِلُوهُ أَشَدَّ عِقَابِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَوْنِهِ مُبَلِّغًا لِهَذَا الْقُرْآنِ عَنْهُ تَعَالَى، مُؤَكَّدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى صِدْقِهِ، وَعَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللهِ الْمُعْجِزَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أَيْ أَخْبِرُونِي أَيُّهَا الْجَاحِدُونَ لِلْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ الْإِلَهِيِّ (مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أَيْ هَذَا الَّذِي أَفَاضَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ سَمَاءِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مِنْ رِزْقٍ تَعِيشُونَ بِهِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَكُلُّ عَطَاءٍ مِنْهُ تَعَالَى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِنْزَالِ كَقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (٣٩: ٦) وَقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (٥٧: ٢٥) - (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) أَيْ فَتَرَتَّبَ عَلَى إِنْزَالِهِ لِمَنْفَعَتِكُمْ أَنْ جَعَلْتُمْ بَعْضَهُ حَرَامًا وَبَعْضَهُ حَلَالًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا) (٦: ١٣٦ - ١٥٠) الْآيَاتِ وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (٥: ١٠٣) أَيْ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَقَالَ هُنَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ: (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَمُدَّتْ هَمْزَتُهُ لِدُخُولِهَا عَلَى أَلْفِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ أَنْ يُحَرِّمُ عَلَى النَّاسِ وَيُحِلَّ لَهُمْ إِلَّا رَبُّهُمُ اللهُ، فَهَلِ اللهُ هُوَ الَّذِي أَذِنَ لَكُمْ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ؟ (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) بِزَعْمِكُمْ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ أَيْ لَا مَنْدُوحَةَ لَكُمْ عَنِ الْإِقْرَارِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا دَعْوَى الْإِذْنِ مِنَ اللهِ لَكُمْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِالْوَحْيِ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ وَتُلِحُّونَ وَتَلِجُّونَ فِي الْإِنْكَارِ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِمَّا الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ؟ وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُكُمْ بِإِنْكَارِ الْأَوَّلِ؛ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَ ((أَمْ)) مُتَّصِلَةً،
فَيَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَأَصْلُ الْفَرْيِ قَطْعُ الْجِلْدِ لِمَصْلَحَةٍ وَالِافْتِرَاءُ تَكَلُّفُهُ وَغَلَبَ فِي تَعَمُّدِ الْكَذِبِ.
قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ: وَكَفَى بِهِ زَاجِرًا لِمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ إِتْقَانٍ، كَبَعْضِ فُقَهَاءِ هَذَا الزَّمَانِ، وَقَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَدْ أَنْكَرَ اللهُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللهُ أَوْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا اهـ. وَنَحْنُ نَقُولُ: وَكَفَى بِهِ زَاجِرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute