للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْحُزْنِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ (٩: ٤٠) ، (٣٦٩ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) .

وَالتَّعْبِيرُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيرِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى بِدُونِهِمَا: قُلْ لِيَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَأَخَّرَ الْأَمْرَ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقَهُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِهِ فَهُوَ فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ ((الْفَاءَ)) لِإِفَادَةِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ فَصَارَ فِيهِمَا ((فَلْيَفْرَحُوا)) دُونَ

مَا يَجْمَعُونَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمُبَيَّنِ فِي آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَى الْأَمْرِ (فَبِذَلِكَ) لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَتَفْصِيلِ مَبَاحِثِهِ فِي الْإِعْرَابِ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْنَا، وَبَسْطُهُ يُشْغِلُ عَنِ الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ مَنْهَجِنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ.

ثُمَّ قَالَ: (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أَيْ أَنَّ الْفَرَحَ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُونَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وَسَائِرِ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ فَقْدِهِمَا لَا لِأَنَّهُ سَبَبُ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، الْمُفَضَّلَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، كَمَا اشْتُهِرَ فِيمَا خَطَّتْهُ الْأَقْلَامُ وَلَاكَتْهُ الْأَلْسِنَةُ، بَلْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ كَمَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ إِذْ كَانَتْ هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ سَبَبًا لِمَا نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى مِنَ الْمُلْكِ الْوَاسِعِ، وَالْمَالِ الْكَثِيرِ، مَعَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعِزِّ الْكَبِيرِ، فَلَمَّا صَارَ جَمْعُ الْمَالِ وَمَتَاعُ الدُّنْيَا وَفَرَحُ الْبَطَرِ بِهِ هُوَ الْمَقْصُودَ لَهُمْ بِالذَّاتِ، وَتَرَكُوا هِدَايَةَ الدِّينِ فِي إِنْفَاقِهِ وَالشُّكْرِ عَلَيْهِ، ذَهَبَتْ دُنْيَاهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضِلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) .

هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يُجَادِلُونَ فِيهِ، تَعْزِيزًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَدَفْعِ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ التَّشْرِيعِ الْعَمَلِيِّ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>