للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنَّ الْقَوْلَ فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا كَالْقَوْلِ فِيمَا قَبْلَهَا سَوَاءٌ، فَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِجَاجِ،، قَالَ تَعَالَى:

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهْ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى: أَرَأَيْتُمْ مَاذَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِكُمْ مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ رَاجِينَ شَفَاعَتَهُمْ إِنْ أَصَمَّكُمُ اللهُ تَعَالَى فَذَهَبَ بِسَمْعِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ فَذَهَبَ بِأَبْصَارِكُمْ، وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَأَلْبَابِكُمُ الَّتِي هِيَ مَرَاكِزُ الْفَهْمِ وَالشُّعُورِ وَالْعَقْلِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ لَا تَسْمَعُونَ قَوْلًا وَلَا تُبْصِرُونَ طَرِيقًا، وَلَا تَعْقِلُونَ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا،، وَلَا تُدْرِكُونَ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا - مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ، أَوْ بِمَا ذُكِرَ مِمَّا أَخَذَ اللهُ مِنْكُمْ؟ أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرُهُ يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِكُمْ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْلِيَاءِ آلِهَةً لَقَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ، فَلِمَاذَا تَدْعُونَهُمْ وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْإِلَهِ الْقَدِيرِ؟ (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أَيِ: انْظُرْ كَيْفَ نُنَوِّعُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ الْكَثِيرَةِ وَنَجْعَلُهَا عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى لِيَتَذَكَّرُوا وَيَقْتَنِعُوا، فَيُنِيبُوا وَيَرْجِعُوا، ثُمَّ هُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا، وَيَتَجَنَّبُونَ التَّأَمُّلَ فِيهَا، يُقَالُ: صَدَفَ عَنِ الشَّيْءِ صَدْفًا وَصُدُوفًا إِذَا أَعْرَضَ إِعْرَاضًا شَدِيدًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ صَدَفَةِ الْجَبَلِ أَيْ جَانِبِهِ وَمُنْقَطَعِهِ. وَالْعَطْفُ بِ " ثُمَّ " يُفِيدُ الِاسْتِبْعَادَ ; لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ

سَبَبُ غَايَةِ الْإِقْبَالِ، فَكَانَ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ فِي الْمُعْتَادِ وَالْمَعْقُولِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُنْتَهَى الْإِعْرَاضِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَيَلِيهِ فِي أَوَائِلِهَا الْكَلَامُ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ تَفْصِيلًا.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ: أَرَأَيْتَكُمْ أَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ كَيْفَ يَكُونُ شَأْنُكُمْ - أَوْ أَخْبِرُونِي عَنْ مَصِيرِكُمْ - إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الَّذِي مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الْأَوَّلِينَ، بِإِنْزَالِهِ بِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ، مُبَاغِتًا وَمُفَاجِئًا لَكُمْ - أَوْ إِتْيَانَ مُبَاغَتَةٍ - فَأَخَذَكُمْ عَلَى غِرَّةٍ لَمْ تَتَقَدَّمْهُ أَمَارَةٌ تُشْعِرُكُمْ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بِكُمْ، أَوْ أَتَاكُمْ ظَاهِرًا مُجَاهِرًا - أَوْ إِتْيَانَ جَهْرَةٍ - بِحَيْثُ تَرَوْنَ مَبَادِيهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ بِأَبْصَارِكُمْ، هَلْ يُهْلَكُ بِهِ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مِنْكُمْ وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ عِنَادًا وَجُحُودًا، إِذْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ أَنْ يُنْجِيَ مِنْهُ الرُّسُلَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَهْلِكُ بِهِ غَيْرُكُمْ، وَإِنَّمَا تَهْلِكُونَ بِظُلْمِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَجِنَايَتِكُمْ عَلَيْهَا. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَكُونُ عَامًّا، يُؤْخَذُ فِيهِ غَيْرُ الظَّالِمِ بِجَرِيرَةِ الظَّالِمِ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي تَحِلُّ بِالْأُمَمِ مِنْ جَرَّاءَ ظُلْمِهِمْ وَفُجُورِهِمُ الَّذِي يُفْضِي إِلَى ضَعْفِهِمْ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِمْ، أَوْ إِلَى تَفَشِّي الْأَمْرَاضِ أَوِ الْمَجَاعَاتِ فِيهِمْ، فَتَكَلَّفُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَكَلُّفًا يُصَحِّحُونَ بِهِ ظَنَّهُمْ، فَزَعَمُوا أَنَّ هَلَاكَ غَيْرِ الظَّالِمِ بِهَذَا الْعَذَابِ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَذَابًا فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>