للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ بَيَانُ حَالِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ رُسُلِهِ ; فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ رِيَاسَةً وَعَصَبِيَّةً، لَا هِدَايَةً إِلَهِيَّةً، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ أَحْوَالِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ مِنْهُمْ فِي تَعَنُّتِهِمْ، وَتَعْجِيزِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فَقَالَ:

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، بِأَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا مُحَرَّرًا بِخَطٍّ سَمَاوِيٍّ يَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِلَيْهِمْ، أَوْ يَنْزِلَ بِاسْمِ جَمَاعَتِهِمْ، أَوْ أَسْمَاءِ

أَفْرَادٍ مُعَيَّنِينَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا ذَلِكَ (أَقْوَالٌ) وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابُ شَرِيعَةِ هَذَا النَّبِيِّ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَالْأَلْوَاحِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ نَقُولُ: إِنَّنَا نَجِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِنَا أَنَّ التَّوْرَاةَ نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى كُلُّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ نَزَلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الْيَهُودَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ شَرِيعَتَهُ كُلَّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَالتَّوْرَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِمَّا كَانَ يَغُشُّ بِهِ الْيَهُودُ الْمُسْلِمِينَ ; فَالْمَعْرُوفُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً هُوَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ مَنْقُوشَةً فِي لَوْحَيْنِ، جَاءَ بِهِمَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ الْمَصْنُوعَ مِنَ الْحُلِيِّ، فِي غَيْبَتِهِ غَضِبَ، وَأَلْقَى اللَّوْحَيْنِ، فَكَسَرَهُمَا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَنْحِتَ لَوْحَيْنِ آخَرَيْنِ مِنَ الْحَجَرِ، وَكَتَبَ لَهُ فِيهِمَا تِلْكَ الْوَصَايَا (رَاجِعِ الْفَصْلَ ٢٤ وَالْفَصْلَ ٣١ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ) وَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ فَقَدْ كَانَتْ تُوحَى إِلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْهِ مَكْتُوبَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً.

يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ، هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَالتَّعْجِيزِ، لَا بِقَصْدِ طَلَبِ الْحُجَّةِ لِأَجْلِ الِاقْتِنَاعِ، وَإِنْ تَعْجَبْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ سُؤَالِهِمْ، وَتَسْتَنْكِرْهُ وَتَسْتَكْبِرْهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً، سَأَلَهُ ذَلِكَ سَلَفُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا الْخَلَفُ وَالسَّلَفُ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ سَوَاءٌ ; لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ تَرِثُ الْآبَاءَ، وَالْإِرْثَ يَكُونُ عَلَى أَشَدِّهِ وَأَتَمِّهِ فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَأْبَوْنَ مُصَاهَرَةَ الْغُرَبَاءِ، عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْقُرْآنِ، فِي مُخَاطَبَةِ الْأُمَمِ وَالْحِكَايَةِ عَنْهَا، مَعْرُوفَةٌ، مِمَّا تَقَدَّمَ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ كَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ لِتَكَافُلِهَا، وَتَوَارُثِهَا، وَاتِّبَاعِ خَلَفِهَا لِسَلَفِهَا تُعَدُّ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَيُنْسَبُ إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهَا مَا فَعَلَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَيُمْكِنُ جَرَيَانُ الْكَلَامِ هُنَا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ ; وَذَلِكَ أَنْ كُلًّا مِنَ السُّؤَالَيْنِ مُسْنَدٌ إِلَى جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ أُسْنِدَ إِلَيْهِمُ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ عَيْنَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ أُسْنِدَ إِلَيْهِمُ السُّؤَالُ الثَّانِي.

<<  <  ج: ص:  >  >>