للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنَّ سُؤَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ رُؤْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - جَهْرَةً أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ سُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَكُلٌّ مِنَ السُّؤَالَيْنِ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ أَوْ عِنَادِهِمْ، أَمَّا سُؤَالُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَا ظَهَرَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْآيَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْأُمُورِ الْمُسْتَغْرَبَةِ ; كَحِيَلِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ لِمُخَالَفَتِهَا لِلْعَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَتْ لَهُمْ كُتُبُهُمْ أَنَّهُ يَقُومُ فِيهِمْ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ يُعْرَفُ بِدَعْوَتِهِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، لَا بِمُجَرَّدِ آيَةٍ أَوْ أُعْجُوبَةٍ يَعْمَلُهَا (كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ، وَغَيْرِهِ) وَإِمَّا أَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ يَقْتَرِحُونَ مَا يَقْتَرِحُونَ تَعْجِيزًا وَمُرَاوَغَةً. وَأَيًّا مَا قَصَدُوا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا سَأَلُوا ; كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦: ٧) .

وَأَمَّا سُؤَالُهُمْ رُؤْيَةَ اللهِ جَهْرَةً ; أَيْ عِيَانًا، كَمَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ جِسْمٌ مَحْدُودٌ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَتُحِيطُ بِهِ أَشِعَّةُ الْأَحْدَاقِ، وَقَدْ عُوقِبُوا عَلَى جَهْلِهِمْ هَذَا ; فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ إِذْ شَبَّهُوا رَبَّهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَرَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى مَا فَوْقَ مَرْتَبَتِهَا، وَقَدْرِهَا وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ (٦: ٩١) وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ جَوِّيَّةٌ، تَشْتَعِلُ بِاتِّحَادِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسَّلْبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، رَاجِعْ آيَةَ ٥٥ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً، فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَفِيهَا التَّعْبِيرُ بِالنَّارِ بَدَلَ الصَّاعِقَةِ، وَرُبَّمَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهَا نَارٌ خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الْعَدَمِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّهَا مِنَ الصَّوَاعِقِ الْمُعْتَادَةِ أَرْسَلَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ظُلْمِهِمْ هَذَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَدَثَتْ بِأَسْبَابِهَا، وَاللهُ تَعَالَى يُوَفِّقُ أَقْدَارًا لِأَقْدَارٍ.

ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، الْمُثْبِتَةُ لِلتَّوْحِيدِ النَّافِيَةُ لِلشِّرْكِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (٥١ و٩٢) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ، الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ اتِّخَاذُ الْعَجَلِ حِينَ تَابُوا مِنْهُ

تِلْكَ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ الَّتِي قَتَلُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ كَمَا بَيَّنَ اللهِ لَنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٥١ - ٥٤) فَرَاجِعْهُ، وَمَا قَبْلَهُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا أَيْ سُلْطَةً ظَاهِرَةً بِمَا أَخْضَعْنَاهُمْ لَهُ عَلَى تَمَرُّدِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ حَتَّى فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ.

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ; أَيْ بِسَبَبِ مِيثَاقِهِمْ ; لِيَأْخُذُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بِقُوَّةٍ، وَيَعْمَلُوا بِهِ مُخْلِصِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا أَيْضًا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

<<  <  ج: ص:  >  >>