أَنْ يَنْصُرُونَكُمْ، وَلَا أَنْ يَنْصُرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَنْ يُحَقِّرُ أَمْرَهُمْ، أَوْ يَسْلُبُهُمْ شَيْئًا مِمَّا وُضِعَ مِنَ الطِّيبِ أَوِ الْحُلِيِّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَسَّرَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَصْنَامَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا أَنْ
يَنْتَفِعُوا مِنْهُ لَهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَا شَابَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَسْلَمَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ " أَنَّهُمَا كَانَا يَعْدُوَانِ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ يَكْسِرَانِهَا وَيَتَّخِذَانِهَا حَطَبًا لِلْأَرَامِلِ لِيَعْتَبِرَ قَوْمُهُمَا بِذَلِكَ، وَكَانَ لِعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ - وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ - صَنَمٌ يَعْبُدُهُ فَكَانَا يَجِيئَانِ فِي اللَّيْلِ فَيُنَكِّسَانِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُلَطِّخَانِهِ بِالْعُذْرَةِ، فَيَجِيءُ فَيَرَى مَا صُنِعَ بِهِ فَيَغْسِلُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَضَعُ عِنْدَهُ سَيْفًا وَيَقُولُ لَهُ: انْتَصِرْ. حَتَّى أَخَذَاهُ مَرَّةً فَقَرَنَاهُ مَعَ كَلْبٍ مَيِّتٍ، وَدَلَّيَاهُ بِحَبْلٍ فِي بِئْرٍ. فَلَمَّا رَآهُ كَذَلِكَ عَلِمَ بُطْلَانَ عِبَادَتِهِ وَأَسْلَمَ، فِيهِ يَقُولُ:
تَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ ... لَمْ تَكُ وَالْكَلْبُ جَمِيعًا فِي قَرَنْ
وَبَعْدَ أَنْ نَفَى قُدْرَتَهُمْ عَلَى النَّصْرِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِنَفْيِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْإِرْشَادِ إِلَيْهِ فَقَالَ:.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَهْدُوكُمْ إِلَى مَا تَنْتَصِرُونَ بِهِ مِنْ أَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ أَوْ جَلِيَّةٍ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ يَسْتَجِيبُونَ لَكُمْ؟ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ سَمِعُوا لَمَا اسْتَجَابُوا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْفِعْلِ، كَفَقْدِهِمْ لِلسَّمْعِ، وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ: وَهُمْ فَاقِدُونَ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ كَفَقْدِهِمْ لِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَتَرَاهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطِبُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِمَا وُضِعَ لَهُمْ مِنَ الْأَعْيُنِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَالْحَدَقِ الزُّجَاجِيَّةِ أَوِ الْجَوْهَرِيَّةِ، وَجَعْلُهَا مُوَجَّهَةً إِلَى الدَّاخِلِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا; لِأَنَّ الْإِبْصَارَ لَا يَحْصُلُ بِالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْحَيَاةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، وَإِذَا كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءً وَلَا نِدَاءً مِنْ عَابِدِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُبْصِرُونَ حَالَهُ وَحَالَ خَصْمِهِ، فَأَنَّى يُرْجَى مِنْهُمْ نَصْرُهُ وَشَدُّ أَزْرِهِ؟ .
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرَّسُولِ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَصْنَامِ قَدْ تَمَّ فِيمَا قَبْلَهَا وَعَادَ الْكَلَامُ فِي عَابِدِيهَا، أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْأَغْبِيَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا هَذِهِ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، إِلَى هُدَى اللهِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِسْلَامُ وَلَا يَسْمَعُوا دَعْوَتَكُمْ سَمَاعَ فَهْمٍ وَاعْتِبَارٍ، وَتَرَاهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ مَا أُوتِيتَ مِنْ سَمْتِ الْجَلَالِ وَالْوَقَارِ، الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ بَيْنَ أُولِي الْجِدِّ وَالْعَزْمِ، وَالصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبَيْنَ
أَهْلِ الْعَبَثِ وَالْهَزْلِ. وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ ذَوِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَعْرِفُ مِنْ شَمَائِلِهِ وَسِيمَاهُ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ حُرٌّ صَادِقٌ، غَيْرُ مُخَادِعٍ وَلَا مُمَاذِقٍ، فَيَقُولُ: وَاللهِ مَا هَذَا الْوَجْهُ وَجْهُ كَاذِبٍ، وَمَا زَالَ مِنَ الْمَعْهُودِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ أَصْحَابَ الْبَصِيرَةِ وَالْفَضِيلَةِ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute