للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَنْبِيَاءُ لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْيَهُودَ دَعَوْا مُعَاذًا وَحُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا إِلَى دِينِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ الْآيَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ دَعَوْا بَعْضَ الصَّحَابَةِ إِلَى دِينِهِمْ أَوْ لَا، وَلَيْسَ الْإِضْلَالُ خَاصًّا بِالدَّعْوَةِ، بَلْ كَانُوا يُلْقُونَ ضُرُوبًا مِنَ الشَّكِّ فِي النُّفُوسِ لِيَصُدُّوهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَغْرَبِهَا مَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ (٧٢) وَكَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُسْتَمِرًّا وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وَقْتِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ حَالِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُضِلَّةِ: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِتَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْإِضْلَالِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِهِ يَنْصَرِفُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي طُرُقِ الْهِدَايَةِ وَمَا أُوتِيَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا هَادِيًا، فَهُمْ يَعْبَثُونَ بِعُقُولِهِمْ وَيُفْسِدُونَ فِطْرَتَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَى إِضْلَالِ أَنْفُسِهِمْ هُوَ كَوْنُ عَاقِبَتِهِ شَرًّا عَلَيْهِمْ وَوَبَالًا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُحَاجَّةِ وَبَيَانِ

اعْوِجَاجِ طَرِيقَةِ الْمُضِلِّينَ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِضْلَالِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ هُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ إِنْذَارٌ لِغَيْرِ مُؤْمِنٍ بِالنَّذِيرِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.

أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ نَحْوَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَوَجْهًا ثَالِثًا هُوَ: أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَهَدُوا فِي إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ - ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ - صَارُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ، حَيْثُ اعْتَقَدُوا شَيْئًا وَلَاحَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا تَصَوَّرُوهُ. وَلَكِنْ يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ: وَمَا يَشْعُرُونَ وَهُمْ قَدْ شَعَرُوا بِخَيْبَتِهِمْ فِي الْإِضْلَالِ، وَلَكِنَّهُمْ لِانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ لَمْ يَشْعُرُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَارِفًا لَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْهُدَى ; لِأَنَّ الْمُنْهَمِكَ فِي الشَّيْءِ لَا يَكَادُ يَفْطِنُ لِعَوَاقِبِهِ وَآثَارِهِ.

ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - نَادَاهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ حَقِيقَةَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ لَعَلَّهُمْ يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمُ الَّتِي شُغِلُوا عَنْهَا بِمُحَاوَلَةِ إِضْلَالِ غَيْرِهِمْ فَقَالَ: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الطَّائِفَةِ الْعَارِفَةِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا قَبْلَهَا مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ، فَآيَاتُ اللهِ عَلَى هَذَا هِيَ الْبِشَارَاتُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ وَمِثْلُهَا بِشَارَاتُ الْإِنْجِيلِ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ يَشْمَلُ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَالْكُفْرُ بِهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْآيَاتُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقِّيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنًى وَحِسًّا، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ مَا يَلِيقُ بِمَنْ يُكَابِرُ الْوُجُودَ وَيَجْحَدُ الْمَشْهُورَ.

يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَيْ تَخْلِطُونَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ وَعَمَلُ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالْبِشَارَةِ بِنَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُعَلِّمُ النَّاسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>