للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ فَهُوَ سَعَادَةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَمِنْ أَشْهَرِ هَؤُلَاءِ الظَّانِّينَ فِي الْآيَةِ غَيْرَ الْحَقِّ: الرَّازِيُّ وَالطَّبَرَسِيُّ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أَيْ: تِلْكَ سُنَّتُنَا فِي إِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ: مَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مُبَشِّرِينَ مَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ عَمَلًا بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ اللَّائِقِ بِهِمْ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الشِّرْكِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالْجَزَاءِ السَّيِّئِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أَيْ: فَلَا خَوْفٌ

عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي يَنْزِلُ بِالْجَاحِدِينَ، وَلَا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْكَافِرِينَ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَوْمَ لِقَاءِ اللهِ تَعَالَى عَلَى شَيْءٍ فَاتَهُمْ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقِيهِمْ مِنْ كُلِّ فَزَعٍ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (٧٥: ٢٢، ٢٣) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) (٨٠: ٣٨، ٣٩) وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَمَلَةَ لَا يَحْزَنُونَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا مِمَّا يَحْزَنُ مِنْهُ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ كَفَوَاتِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، أَوْ لَا يَكُونُ حُزْنُهُمْ كَحُزْنِهِمْ فِي شِدَّتِهِ وَطُولِ أَمَدِهِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا عَرَضَ لَهُمُ الْحُزْنُ لِسَبَبٍ صَرِيحٍ كَمَوْتِ الْوَلَدِ، وَالْقَرِيبِ، وَالصَّدِيقِ، أَوْ فَقْدِ الْمَالِ، وَقِلَّةِ النَّصِيرِ - يَكُونُ حُزْنُهُمْ رَحْمَةً وَعِبْرَةً، مَقْرُونًا بِالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْأُسْوَةِ، لَا يَضُرُّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَبْدَانِهِمْ، وَلَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ عَادَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ يَعْصِمُهُمْ مِنْ إِرْهَاقِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَمِنْ بَطَرِ السَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (٥٧: ٢٣) .

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الَّتِي أَرْسَلْنَا بِهَا الرُّسُلَ يُصِيبُهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا أَحْيَانًا، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَجْمُوعِ دُونَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ وَالِاطِّرَادِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ، أَيْ كُفْرِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ ذُكِرُوا فِي مُقَابِلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، فَالتَّكْذِيبُ يُقَابِلُ الْإِيمَانَ، وَالْفِسْقُ يُقَابِلُ الْإِصْلَاحَ، وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَسَّرَ ابْنُ زَيْدٍ الْفِسْقَ بِالْكَذِبِ هُنَا وَفِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.

وَالْمَسُّ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ وَمَا يُدْرَكُ بِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُصِيبُ الْمُدْرِكَ مِمَّا يَسُوءُهُ غَالِبًا مِنْ ضُرٍّ، وَشَرٍّ، وَكِبَرٍ، وَنَصَبٍ، وَلُغُوبٍ، وَعَذَابِ الضَّرَّاءِ وَالْبَأْسَاءِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يُعَدُّ بِالْعَشَرَاتِ، وَيُسْنَدُ الْفِعْلُ إِلَى سَبَبِ السُّوءِ وَالْأَلَمِ، وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَى مَا يَسُرُّ فِي مُقَابَلَةِ إِسْنَادِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>