للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْجَزَاءِ: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [٦: ١٣٢] وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا [٢٠: ٧٥] .

فَحَسْبُنَا هَذِهِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةً لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ كَوْنِ دَرَجَاتِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَسَبِ دَرَجَاتِ الِارْتِقَاءِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهَا إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَثَرٌ مَا مِنْ آثَارِ الْأَعْمَالِ فِي النَّفْسِ، وَلَا عَاطِفَةٌ مِنْ عَوَاطِفِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَلَا حَقِيقَةٌ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ فِي الْعَقْلِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَدَرَجَاتُ ارْتِقَاءِ الْأَرْوَاحِ لَهَا فِي عِلْمِهِ - تَعَالَى - نِظَامٌ دَقِيقٌ أَدَقُّ مِنْ نِظَامِ مِيزَانِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَمِنْ مِيزَانِ الرُّطُوبَةِ، وَمِنْ مِيزَانِ ثِقَلِ السَّائِلَاتِ فِي دَرَجَاتِهَا الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَوَازِينَ بِالْمَوَازِينِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا سُنَنُ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْكَوْنِ، وَإِنَّ سُنَنَهُ - تَعَالَى - فِي نُفُوسِ النَّاسِ لَا تَقِلُّ عَنْ سُنَنِهِ فِي غَيْرِهَا نِظَامًا

وَاطِّرَادًا، وَأَنَّ بَيْنَ عُلْيَا الدَّرَجَاتِ وَسُفْلَاهَا دَرَجَةَ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عُقُوبَةً، وَأَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَثُوبَةً ; وَلِهَذَا كُلِّهِ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّرَجَاتِ: إِنَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَلَيْسَ عِنْدِي فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - إِلَّا مَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ وَهِيَ:

لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ: غَمَرَهُمْ بِالْمِنَّةِ وَأَثْقَلَهُمْ بِالنِّعْمَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْتَقَلَ مِنْ نَفْيِ الْغُلُولِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ وَصْفِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ وَأَمْرِهِ بِالْمُشَاوَرَةِ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَامَلَهُمْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ - الَّذِينَ اتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ - وَبَيْنَ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَتَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا مَا قَالُوا مِمَّا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ هِدَايَتِهِ - وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَنْ كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فِي أُحُدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ - ثُمَّ عَادَ إِلَى ذِكْرِ مِنَّتِهِ - تَعَالَى - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِبَعْثِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ. وَقَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ وَأَمْرِهِ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ الْحُسْنَى وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْغُلُولِ تَمْهِيدًا لِهَذِهِ الْمِنَّةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ أُخْرَى أَكَّدَ بِهَا الْمِنَّةَ:

الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، أَيِ الْعَرَبِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْمِنَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَا تُنَافِي كَوْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً عَامَّةً: هُوَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمْ يَزِيدُ فِي شَرَفِهِمْ وَيَجْعَلُهُمْ أَوَّلَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ النَّاسِ فَهْمًا لِدَعْوَتِهِ، وَالنِّعْمَةُ الْعَامَّةُ قَدْ ذُكِرَتْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [٢١: ١٠٧] وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ بِالْعَرَبِ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>