لِمَا أَلِفُوا فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِمْ، لَا يُخَالِفُونَ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلًا، يَتَكَلَّفُونَ الْمُخَالَفَةَ تَكَلُّفًا عِنْدَ عَرُوضِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِذَا زَالَ الْمُقْتَضَى عَادُوا إِلَى عَادَهُمْ وشِنْشِنَتِهِمْ، وَعَمِلُوا عَلَى سَابِقِ شَاكِلَتِهِمْ وَإِنَّمَا تَرْبِيَةُ الصِّغَارِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنَ الْحَقِّ، وَتَقَرَّرَ مِنْ أُصُولِ الْفَضِيلَةِ وَالْأَدَبِ، كَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى النَّظَافَةِ وَمُرَاعَاةِ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَعْرِفُوا مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ فَائِدَةَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَأْخِيرِ تَلْقِينِهِمْ هَذِهِ الْفَائِدَةَ إِلَى وَقْتِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فِي الْكِبَرِ لَا يُنَافِي تَرْبِيَةَ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَوْضَحُ الشَّوَاهِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى مَا قُلْنَا فُشُوُّ السُّكْرِ فِي أُمَمِ الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنَ الشَّرْقِيِّينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ضَارٌّ قَبِيحٌ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي مِائَةِ الْأَلْفِ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يَتْرُكُهُ بَعْدَ أَنِ اعْتَادَهُ وَأَدْمَنَهُ لِاقْتِنَاعِهِ بِضَرَرِهِ مِمَّا
ثَبَتَ مِنَ الدَّلَائِلِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّجَارِبِ الْقَطْعِيَّةِ.
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَّا سَاءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) .
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَأْنًا آخَرَ مَنْ شُئُونِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ غُرُورُهُمْ بِهَا، وَافْتِتَانُهُمْ بِمَتَاعِهَا، وَإِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ يُكْشَفُ الْغِطَاءُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ حَسْرَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمُ السَّابِقِ، وَغُرُورِهِمْ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ الزَّائِلِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَالْمُقَابَلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخِرَةِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتِمَّةٌ لِمَا سَبَقَهَا، وَإِنَّ " قَالُوا " فِيهَا مَعْطُوفٌ عَلَى " عَادُوا " فِيمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَوْ رُدَّ أُولَئِكَ إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute