للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا مَا ظَهَرَ لَهُمْ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ مِنْ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، فَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ مَا كَانَ يَلُوحُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْعِبَرِ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ يُكَابِرُونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ وَيُغَالِطُونَ عَقْلَهُمْ وَوِجْدَانَهُمْ، وَيُمَارُونَ مُنَاظِرِيهِمْ وَأَخْدَانَهُمْ؟ يَشْرَبُ الْفَاسِقُ الْخَمْرَ فَيُصَدَّعُ، أَوْ يَلْعَبُ الْقِمَارَ فَيَخْسَرُ، وَيَأْكُلُ الْمَرِيضُ أَوْ ضَعِيفُ الْبِنْيَةِ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ أَوْ يُكْثِرُ مِنْهُ فَيَتَضَرَّرُ وَيُرْوَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ لِشَرْعِ اللهِ الْمُنَزَّلِ بِالْحَقِّ، أَوْ لِسُنَنِهِ الثَّابِتَةِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْخَلْقِ، مَا حَلَّ مِنَ الشَّقَاءِ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ فَيَنْدَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، وَيَتُوبُ وَيَعْزِمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا عِنْدَ فَقْدِ دَاعِيَةِ الْعَمَلِ، وَوُجُودِ دَاعِيَةِ التَّرْكِ، فَإِذَا عَادَتِ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْعَمَلِ عَادَ إِلَيْهِ خُضُوعًا لِمَا اعْتَادَ وَأَلِفَ، وَتَرْجِيحًا لِمَا يَلَذُّ عَلَى مَا يَنْفَعُ.

وَمِنْ وَقَائِعِ الْعِبَرِ فِي ذَلِكَ مَا حَدَثَ لِأَخٍ لِي عُمِلَتْ لَهُ عَمَلِيَّةً جِرَاحِيَّةً خُدِّرَ قَبْلَهَا بِالْبَنْجِ (كُلُورُفُورْم) فَكَانَ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِيهِ أَنَّهُ شَعَرَ بِأَنَّ رُوحَهُ تُسَلُّ مِنْ بَدَنِهِ وَأَنَّهُ قَادِمٌ عَلَى رَبِّهِ وَقَدْ طَالَ الْأَمَدُ عَلَى انْدِمَالِ جُرْحِهِ، وَكَانَ قَبْلَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الشِّفَاءِ مِنْهُ يَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ بِنَفْسِهِ فَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَيَتَحَسَّرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي

الْوَاجِبَاتِ وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ الطَّوِيلَةِ فِي الْبِطَالَةِ وَاللهْوِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَعَزَمَ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، إِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ مَرَضِهِ، حَتَّى عَزَمَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَرْكِ شُرْبِ الدُّخَّانِ، الَّذِي مَنَعَهُ الطَّبِيبُ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ أَخْذِهِ بِالْعِلَاجِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّحَّةِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ سَابِغَةً عَادَ كَذَلِكَ لِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ وَعَادَاتِهِ السَّابِقَةِ، عَلَى أَنَّهُ تَذَكَّرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ هَذِهِ الْآيَةَ (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) وَعَدَّ مَا وَقَعَ لَهُ شَاهِدًا لَهَا وَمِثَالًا تُعْرَفُ بِهِ حَقِيقَةُ تَفْسِيرِهَا.

وَيُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى لِإِقَامَةِ النَّاسِ عَلَى صِرَاطِ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ إِنَّمَا هِيَ حَمْلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمَلِ وَالتَّعْوِيدِ، مَعَ التَّعْلِيمِ وَحُسْنِ التَّلْقِينِ، كَمَا يُرَبَّى الْأَطْفَالُ فِي الصِّغَرِ، وَكَمَا يُمَرَّنُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْمَالِ الْعَسْكَرِ، وَأَنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْخَطَأِ أَنْ يُسْمَحَ لِلْأَحْدَاثِ بِطَاعَةِ شَهَوَاتِهِمْ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، بِشُبْهَةِ تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ بِمَا يُفِيدُهُمُ الْعِلْمُ فِي سِنِّ الرُّشْدِ مِنَ الِاقْتِنَاعِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ، أَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْخَطَأِ وَأَنَا عَالِمٌ بِفَضْلِ التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ وَمِنَ الدُّعَاةِ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَشَهَوَاتِهِ فِي الصِّغَرِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْكِبَرِ، بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مَلَكَةً وَعَادَةً لَهُ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ يُنَافِي الْحَقَّ أَوِ الْعَدْلَ وَالْفَضِيلَةَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْحِكْمَةِ، بِمَا أُوتُوا مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، أَوْ مِنَ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ مُسَخَّرُونَ لِعَادَتِهِمْ، مُنْقَادُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>