للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا يَهُمُّهُمْ إِلَّا سَلَامَةُ أَبْدَانِهِمْ، وَالْأَمْنُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَحَارِبَيْنِ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مَعَهُمْ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ نَاسٌ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُسْلِمُونَ رِيَاءً فَيَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيَصْلُحُوا اهـ.

وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ فِتْنَةٍ أُرْكِسُوا فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يُوجَدُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَيُقَرَّبُ إِلَى الْعُودِ وَالْحَجَرِ وَإِلَى الْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ لَهُ: " قُلْ هَذَا رَبِّي " لِلْخُنْفُسَاءِ وَالْعَقْرَبِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ حَيٌّ كَانُوا بِتِهَامَةَ، قَالُوا: " يَا نَبِيَّ اللهِ، لَا نُقَاتِلُكَ وَلَا نُقَاتِلُ

قَوْمَنَا "، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْمَنُوا نَبِيَّ اللهِ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فَأَبَى اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، يَقُولُ: كَمَا عَرَضَ لَهُمْ بَلَاءٌ هَلَكُوا فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ وَكَانَ يَأْمَنُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، يَنْقُلُ الْحَدِيثَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ.

وَنَزِيدُ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوا جَانِبَ الْمُسْلِمِينَ إِمَّا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِالْعَهْدِ عَلَى السِّلْمِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَفْتِنُهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَيْ: يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ أَوْ عَلَى مُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْإِرْكَاسُ فَيَرْتَكِسُونَ أَيْ: فَيَتَحَوَّلُونَ شَرَّ التَّحَوُّلِ مَعَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ النِّفَاقِ وَالِارْتِكَاسِ مَرَّةً بَعْدَ الْمَرَّةِ، أَيْ فَهُمْ قَدْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي شَأْنِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، أَيْ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بِتَرْكِكُمْ وَشَأْنِكُمْ وَالْتِزَامِهِمُ الْحِيَادَ، وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ زِمَامَ الْمُسَالِمَةِ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَثِقُونَ بِهَا حَتَّى كَأَنَّ زِمَامَهَا فِي أَيْدِيكُمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالصُّلْحِ، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَنِ الدَّسَائِسِ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ بِهِ غَدْرُهُمْ وَشَرُّهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، إِذْ ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُولَئِكُمْ جَعَلَنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ: جَعَلَنَا لَكُمْ حُجَّةً وَاضِحَةً وَبُرْهَانًا ظَاهِرًا عَلَى قِتَالِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ السُّلْطَانَ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ الْحُجَّةُ، وَهَذَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيمَنِ اعْتَزَلُوا وَأَلْقَوْا السَّلَمَ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، وَكُلٌّ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ تُؤَيَّدُ بِالْأُخْرَى فِي بَيَانِ كَوْنِ الْقِتَالِ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فِي كُلِّ حَالٍ.

قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا اعْتَزَلُوا قِتَالَنَا وَطَلَبُوا الصُّلْحَ مِنَّا وَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ قِتَالِنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ وَلَا قَتْلُهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:

<<  <  ج: ص:  >  >>