للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ تَعْبِيرَ الْإِسْكَافِيِّ فِي هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَوْسَعُ مِنَ التَّعْبِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ وَأَبْعَدُ عَنِ الْإِشْكَالِ، فَقَدْ قَالَ هُوَ: إِنَّ مَعْنَى الْحَالِ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْفِعْلِ وَإِدْنَائِهِ مِنَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِجَعْلِ الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ حَقِيقَةً أَوْ بِجَعْلِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فِيهِ قَرِيبًا جِدًّا حَتَّى كَأَنَّهُ حَالٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا

يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ: تَخْلِيصُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ، وَجَوَابُهُمْ عَنِ الْآيَتَيْنِ يَظْهَرُ فِي تَعْبِيرِهِمْ كَمَا يَظْهَرُ فِي تَعْبِيرِهِ هُوَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ مَا.

ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِدْقِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: (فَلَسَوْفَ) مِنْ كَوْنِ فِرْعَوْنَ ذَكَرَ فِي وَعِيدِهِمُ الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ قَطْعِيٌّ لَا مَرَدَّ لَهُ، سَوَاءٌ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِيضَاحِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْارَكِ، وَرُبَّ جُمْلَةٍ أَوْ جُمَلٍ طَوِيلَةٍ تُؤَدَّى فِي الْقُرْآنِ بِجُمْلَةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ أَوْ حَرْفٍ فِي كَلِمَةٍ كَاللَّامِ هُنَا، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ الْلَفْظِيَّةِ فِي غَيْرِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ، وَكُلُّهَا دُونَ إِعْجَازِهِ فِي بَيَانِ حَقَائِقِ الشَّرْعِ وَالْعِلْمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ بِالتَّرْجَمَةِ؟ وَمِثْلُهُ فِي هَذَا مَا سَبَقَ، وَمَا يَأْتِي مِنْ تَتِمَّةِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ.

(وَمِنْهَا) - أَيْ: مَبَاحِثُ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ بَيْنَ السُّوَرِ - أَنَّهُ قَالَ هُنَا: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَقَالَ فِي (طَهَ: ٧١) وَ (الشُّعَرَاءِ: ٤٩) وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْعَاطِفَيْنِ فَإِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ مُطْلَقٌ يَصْدُقُ بِالتَّعْقِيبِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " الْفَاءُ " بِالتَّرَاخِي الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " ثُمَّ " وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِأَحَدِهِمَا، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَفَادَ بِـ " ثُمَّ " مَعْنًى خَاصًّا، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّرَاخِي فِي الزَّمَنِ أَوِ الرُّتْبَةِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ هُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَفَادَ بِقَوْلِهِ: (فَلَسَوْفَ) (٢٦: ٤٩) وَقَوْلِهِ: (فَلَأُقَطِّعَنَّ) (٢٠: ٧١) أَنَّ الْوَعِيدَ سَيُنَفَّذُ حَالًا فِي الْمَجْلِسِ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ - أَفَادَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ (٧: ١٢٤) أَنَّ التَّصْلِيبَ نَوْعٌ آخَرُ، وَمَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ التَّنْكِيلِ بِهِمْ، أَوْ سَيَتَأَخَّرُ عَنِ التَّقْطِيعِ فِي الزَّمَنِ بِأَنْ يَظَلُّوا بَعْدَهُ مَطْرُوحِينَ عَلَى الْأَرْضِ إِهَانَةً لَهُمْ، ثُمَّ يُعَلَّقُونَ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَوْنُ التَّصْلِيبِ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فَائِدَةٌ أُخْرَى زَادَهَا فِي سُورَةِ طَهَ، وَتَخْصِيصُهَا بِهَا مُنَاسِبٌ لِنَظْمِهَا، وَلَعَلَّكَ تُدْرِكُ ذَلِكَ بِالذَّوْقِ كَمَا تُدْرِكُ بِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ بُحُورِ الشِّعْرِ.

وَأَوْرَدْنَا هَذَا الْبَحْثَ الْفَنِّيَّ وَأَمْثَالَهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى اجْتِنَابِنَا لِلِاصْطِلَاحَاتِ الْفَنِّيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ فِي الْغَالِبِ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: (١) أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ، وَلَمْ نَرَ لَهَا بَيَانًا فِي التَّفَاسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ حَتَّى الَّتِي تَمْتَازُ بِالْعِنَايَةِ بِمِثْلِهَا.

(٢) بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الدِّقَّةِ فِي تَحْدِيدِ الْمَعَانِي، وَغَرَائِبِ الْإِيجَازِ وَالِاتِّفَاقِ فِي مَظِنَّةِ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ طَوِيلٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٤: ٨٢) إِذْ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَةِ بَشَرٍ أَنْ يَحْكِيَ قِصَّةً كَقِصَّةِ مُوسَى

<<  <  ج: ص:  >  >>