للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَفَادَ التَّنْكِيرُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الضَّلَالِ، فَبَالَغَ فِي النَّفْيِ كَمَا بَالَغُوا فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ (بِي) تَعْرِيضٌ بِضَلَالِهِمْ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى نَفْيِ الضَّلَالَةِ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ مُقَابِلِهَا لَهُ فِي ضِمْنِ تَبْلِيغِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى فَقَالَ:

(وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ لَسْتُ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ فَقَطْ بَلْ أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَيْكُمْ لِيَهْدِيَكُمْ بِاتِّبَاعِي سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَيُنْقِذَكُمْ عَلَى يَدَيَّ مِنَ الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ بِالشِّرْكِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْمَعَاصِي الْمُدَنِّسَةِ لِلْأَنْفُسِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَرْوَاحِ. وَالْقُدْوَةُ فِي الْهُدَى، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا فِيمَا بِهِ أَتَى، وَمِنْ آثَارِ رَحْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَلَّا يَدَعَكُمْ عَلَى شِرْكِكُمُ الَّذِي ابْتَدَعْتُمُوهُ بِجَهْلِكُمْ، حَتَّى يُبَيِّنَ لَكُمُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ يُبَيِّنُ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَهُوَ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَنْفُسُ مِنَ السُّؤَالِ عَمَّا

جَاءَ بِهِ بِدَعْوَاهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ. فَقَالَ:

(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو " أُبْلِغُكُمْ " بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِبْلَاغِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ الْمُفِيدِ مِنَ التَّبْلِيغِ، لِلتَّدْرِيجِ وَالتَّكْرَارِ الْمُنَاسِبِ لِجَمْعِ الرِّسَالَةِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهَا وَمَوْضُوعِهَا وَهُوَ مُتَعَدِّدٌ: مِنْهُ الْعَقَائِدُ وَأَهَمُّهَا التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ، وَيَتْلُوهُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَبِالْمَلَائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَمِنْهُ) الْآدَابُ وَالْحِكَمُ وَالْمَوَاعِظُ وَالْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَلَوْ آمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ لَمَا كَانَ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.

(وَأَنْصَحُ لَكُمْ) قَالَ الرَّاغِبُ: النُّصْحُ تَحَرِّي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فِيهِ صَلَاحُ صَاحِبِهِ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ لَكُمُ الْوُدَّ أَيْ أَخْلَصْتُهُ، وَنَاصِحُ الْعَسَلِ خَالِصُهُ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ الْجِلْدَ خِطْتُهُ، وَالنَّاصِحُ الْخَيَّاطُ، وَالنِّصَاحُ (كَكِتَابٍ) الْخَيْطُ اهـ. وَفِي الْكَشَّافِ يُقَالُ نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَفِي زِيَادَةِ اللَّامِ مُبَالَغَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ، وَأَنَّهَا وَقَعَتْ خَالِصَةً لِلْمَنْصُوحِ مَقْصُودًا بِهَا جَانِبُهُ لَا غَيْرَ فَرُبَّ نَصِيحَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاصِحُ فَيَقْصِدُ النَّفْعَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا نَصِيحَةَ أَمْحَضُ مِنْ نَصِيحَةِ اللهِ وَرُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ اهـ. فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّصِيحَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا صَلَاحُ الْمَنْصُوحِ لَهُ لَا النَّاصِحِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنْهَا وَجَاءَتْ تَبَعًا فَلَا بَأْسَ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ النَّصِيحَةُ خَالِصَةً، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الدِّينُ النَّصِيحَةُ - قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ - لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهَا حَالِيَّةٌ. أَيْ أُبَلِّغُكُمْ مَا أَرْسَلَنِي اللهُ تَعَالَى بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَأَنْصَحُ لَكُمْ بِمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>