للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

ادَّعَى (الْجَلَالُ) أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ يُوَلُّونَ وُجُوهَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، وَالْيَهُودِ الَّذِينَ يُوَلُّونَهَا قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا ادِّعَاءٌ لَمْ يَثْبُتْ، وَالصَّحِيحُ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَكْبَرُوا أَمْرَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَاتِ التَّحْوِيلِ وَحِكَمِهِ، وَطَالَ خَوْضُهُمْ فِيهَا حَتَّى شَغَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَغَلَا كُلُّ فَرِيقٍ فِي التَّمَسُّكِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَتَنْقِيصِ مُقَابِلِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ فِي كُلِّ خِلَافٍ يُثِيرُ الْجَدَلَ وَالنِّزَاعَ، فَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَرَوْنَ أَنَّ

الصَّلَاةَ إِلَى غَيْرِ قِبْلَتِهِمْ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يَكُونُ صَاحِبُهَا عَلَى دِينِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هِيَ كُلُّ شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ وَأَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كَافَّةً أَنَّ مُجَرَّدَ تَوْلِيَةِ الْوَجْهِ قِبْلَةً مَخْصُوصَةً لَيْسَ هُوَ الْبِرَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدِّينِ ; ذَلِكَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ إِنَّمَا شُرِعَ ; لِأَجْلِ تَذْكِيرِ الْمُصَلِّي بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى فِي صَلَاتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى مُنَاجَاتِهِ وَدُعَائِهِ وَحْدَهُ، وَلِيَكُونَ شِعَارًا لِاجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ، فَتَوْلِيَةُ الْوَجْهِ وَسِيلَةٌ لِلتَّذْكِيرِ بِتَوْلِيَةِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ رُكْنًا مِنَ الْعِبَادَةِ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أُصُولَ الْبِرِّ وَمَقَاصِدَ الدِّينِ فَقَالَ:

(لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِنَصْبِ الْبِرِّ، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهِ، وَكِلَاهُمَا ظَاهِرٌ، وَالْبِرُّ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - لُغَةً: التَّوَسُّعُ فِي الْخَيْرِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرِّ بِالْفَتْحِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْبَحْرِ فِي تَصَوُّرِ سَعَتِهِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَشَرْعًا: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَوْجِيهُ الْوُجُوهِ إِلَى الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لَيْسَ هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>