للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَأَبَاحُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَكِتَابِهِ وَخَاتَمِ رُسُلِهِ، مَا لَمْ يَخْطُرْ مِثْلُهُ فِي بَالِ الشَّيْطَانِ قَبْلَهُمْ فَيُوَسْوِسَ بِهِ لِغَيْرِهِمْ:

لَقَدْ كَذَبُوا عَلَى الْإِسْلَامِ كِذْبًا ... تَزُولُ الشُّمُّ مِنْهُ مُزَلْزَلَاتِ

أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (١٦: ١٠٥) وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي هَدْيِهِ: ((يُطْبَعُ

الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ)) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -.

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أَيْ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ تَلَبَّسَتْ بِهَذَا الظُّلْمِ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ وَالزِّينَةِ وَصُنُوفِ النَّعِيمِ وَأَمْكَنَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ بِهِ، أَيْ تَجْعَلُهُ فِدَاءً لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ذُو قُوَّةٍ يُنْقِذُهَا مِنْهُ بِذُلِّهَا لَهُ، لَافْتَدَتْ بِهِ كُلِّهِ لَا تَدَّخِرُ مِنْهُ شَيْئًا (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) إِسْرَارُ الشَّيْءِ إِخْفَاؤُهُ وَكِتْمَانُهُ، وَإِسْرَارُ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ، فَهُوَ ضِدُّ إِعْلَانِهِ وَالْجَهْرِ بِهِ، وَمِنْهُ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) (٦٧: ١٣) (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) ٢١: ١١٠) وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْجَهْرِ مُطْلَقًا فَهُوَ ضِدٌّ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَالنَّدَمُ وَالنَّدَامَةُ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ عَقِبَ كُلِّ فِعْلٍ يَظْهَرُ لَهُ ضَرَرُهُ، وَقَدْ يَجْهَرُ بِهِ بِالْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: (يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ) (٣٩: ٥٦) أَوْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَقَدْ يُخْفِيهِ وَيَكْتُمُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ إِعْلَانِهِ أَوِ اتِّقَاءً لِلشَّمَاتَةِ أَوِ الْإِهَانَةِ بِهِ، أَيْ وَأَسَرَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ ظَلَمُوا نَدَامَتَهُمْ وَحَسْرَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَوْ كَتَمُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ (لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أَيْ رَأَوْا مَبَادِيَهُ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا لَا مَصْرِفَ لَهُمْ عَنْهَا، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِرُؤْيَتِهِ عَنْ وُقُوعِهِ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أَيْ وَقَضَى اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالظُّلْمِ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِيذَاءِ فَخُصُومُهُمُ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ، وَكَذَا مَنْ أَضَلُّوهُمْ وَظَلَمُوهُمْ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِالْكُفْرِ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ هُنَا وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ بَعْدَ حِكَايَةِ مُجَادَلَةِ الظَّالِمِينَ وَالْمَظْلُومِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٤: ٣٣) وَإِنْ أُرِيدَ بِالظُّلْمِ مَا يَعُمُّ ظُلْمَهُمْ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ وَهَضْمَ الْحُقُوقِ كَانَ كُلُّ مَظْلُومٍ خَصْمًا لِظَالِمِهِ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أَيْ لَا يَظْلِمُهُمُ اللهُ كَمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا أَتْبَاعَهُمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ. وَالْآيَاتُ فِي نَدَمِ الظَّالِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

مَعْرُوفَةٌ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّبَأِ: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) (٧٨: ٤٠) وَقَوْلِهِ: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) (٢٥: ٢٧ و٢٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>