للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَتْرُكُونَ الذُّنُوبَ نَدَمًا وَخَوْفًا مِنَ اللهِ وَرَجَاءً فِيهِ، وَيَصْلُحُونَ مَا كَانُوا أَفْسَدُوا، كَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ - خِطَابًا لَهُمْ - مِنْ سُورَةِ طه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢) .

وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ زَعْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ قَدْ أُخِذَ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ فِي كِتَابِهِ بِأَلَّا يَقُولُوا عَلَيْهِ غَيْرَ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِيهِ، فَمَا بَالُهُمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ اللهَ سَيَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ أَيْ: مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ سَيَغْفِرُ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ كَمَا فِي آخِرِ سَفَرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ.

وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيْ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ فِيهَا لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الرَّذَائِلَ وَالْمَعَاصِيَ خَيْرٌ مِنَ الْحُطَامِ الْفَانِي مِنْ عَرَضِ

الدُّنْيَا بِالرَّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى عَقْلٍ لَمْ يَطْمِسْهُ الطَّمَعُ الْبَاطِلُ، فِي الْحُطَامِ الْعَاجِلِ، فَتُرَجِّحُونَ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّعِيمَ الْعَظِيمَ الدَّائِمَ، عَلَى الْمَتَاعِ الْحَقِيرِ الزَّائِلِ! وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الطَّمَعَ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي اسْتَحْوَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ، وَلَا يَزَالُ هَذَا التَّفَانِي فِيهِ أَخَصَّ صِفَاتِهِمْ.

وَقَدْ سَرَى شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى رِجَالِ الدِّينِ الَّذِينَ وَرِثُوا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ، وَالْقُرْآنَ الْحَكِيمَ، وَدَرَسُوا مَا فِيهِ، غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الطَّمَعُ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا الْقَلِيلِ، وَعَرَضِهَا الدَّنِيءِ، وَالْغُرُورِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّحَلِّي بِلَقَبِهِ، وَالتَّعَلُّلِ بِأَمَانِيِّ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ وَالشَّفَاعَاتِ، وَهُمْ يَقْرَؤُونَ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنْ نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ، وَالْمَغْفِرَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَكَوْنِ الشَّفَاعَةِ لَا تَقَعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢١: ٢٨) وَلَنْ يَرْضَى الله عَنْ فَاسِقٍ وَلَا مُنَافِقٍ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩: ٩٦) ، بَلْ مَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِثْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِهِمْ وَنَتَّقِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي أَخَذَهُمْ بِهَا، وَلَكِنَّنَا مَعَ هَذَا كُلِّهِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، إِلَّا أَنَّنَا نَحْمَدُ اللهَ أَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ فِينَا غَيْرُ عَامٍّ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ فِينَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ يَطْعَنُ فِيهَا الْجَمَاهِيرُ الَّذِينَ صَارَ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ غَرِيبًا، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ مِرَارًا بَلْ صَرَّحَتِ الْآيَاتُ بِالتَّحْذِيرِ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمَانِيهِمْ وَفِي فِسْقِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ (٤: ١٢٣) إِلَخ. وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٥٧: ١٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>