أَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢) وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي الْيَهُودِ بَعْدَ ذِكْرِ إِفْسَادِهِمْ مَرَّتَيْنِ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَقَلَّمَا ذَكَرَ اللهُ عَذَابَ الْفَاسِقِينَ الْمُفْسِدِينَ، إِلَّا وَقَرَنَهُ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِلتَّائِبِينَ الْمُحْسِنِينَ حَتَّى لَا يَيْأَسَ صَالِحٌ مُصْلِحٌ مِنْ رَحْمَتِهِ بِذَنْبٍ عَمَلِهِ بِجَهَالَةٍ، وَلَا يَأْمَنُ مُفْسِدٌ مِنْ عِقَابِهِ اغْتِرَارًا بِكَرَمِهِ وَعَفْوِهِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَنْبِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفَ كَانَ بَدْءُ إِذْلَالِ الْيَهُودِ بِإِزَالَةِ وَحْدَتِهِمْ، وَتَمْزِيقِ جَامِعَتِهِمْ فَقَالَ: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا أَيْ وَفَرَّقْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهِمْ أُمَمًا بِالتَّقْدِيرِ، أَوْ صَيَّرْنَاهُمْ أُمَمًا مُتَقَطِّعَةً، بَعْدَ أَنْ كَانُوا أُمَّةً مُتَّحِدَةً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ كَالَّذِينِ نَهَوُا الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَالَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِلَى عَهْدِ عِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَمِنْهَا نَاسٌ دُونَ وَصْفِ الصَّلَاحِ لَمْ يَبْلُغُوهُ، وَهُمْ دَرَجَاتٌ أَوْ دَرَكَاتٌ، مِنْهُمُ الْغُلَاةُ فِي الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، كَالَّذِينِ كَانُوا يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْهُمُ السَّمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الْأَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ شَأْنُ الْأُمَمِ الْفَاسِدَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، تُفْسِدُ بِالتَّدْرِيجِ لَا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا نَرَاهُ فِي أُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيِ امْتَحَنَّاهُمْ، وَبَلَوْنَا سَرَائِرَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي تَحْسُنُ، وَتَقَرُّ بِهَا الْأَعْيُنُ، وَبِالنِّقَمِ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَرُبَّمَا حَسُنَتْ بِالصَّبْرِ وَالْإِنَابَةِ عَوَاقِبُهَا، رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَنْبِهِمْ، وَيُنِيبُوا إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَعُودَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَيْ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمُ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، خَلْفُ سُوءٍ وَبَدَلُ شَرٍّ، قِيلَ: إِنَّ الْخَلْفَ بِسُكُونِ اللَّامِ يَغْلِبُ فِي الْأَشْرَارِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْأَخْبَارِ خَلَفٌ بِالتَّحْرِيكِ كَسَلَفٍ وَرِثُوا الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ عَنْهُمْ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَيْهِمْ،
فَمَاذَا كَانَ شَأْنُهُمْ؟ الْجَوَابُ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى أَيْ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الشَّيْءِ الْأَدْنَى، أَيْ هَذَا الْحُطَامَ الْحَقِيرَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّشَى، وَالِاتِّجَارِ بِالدِّينِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا أَيْ: سَيَغْفِرُ اللهُ لَنَا، وَلَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا أَذْنَبْنَا، فَإِنَّنَا شَعْبُهُ الْخَاصُّ، سَلَائِلُ أَنْبِيَائِهِ، وَنَحْنُ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ إِلَّا أَمَانِيَّ، وَغُرُورٌ وَأَوْهَامٌ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّصَارَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ اهـ. وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُنَافِيهِ مُقْتَضَى السِّيَاقِ، فَأَوَائِلُ النَّصَارَى كَانُوا صَالِحِينَ، وَسَابِقُ الْكَلَامِ وَلَاحِقُهُ فِي الْيَهُودِ وَحْدَهُمْ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى ذَنْبِهِمْ، إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ آخَرُ مِثْلُ الَّذِي أَخَذُوهُ أَوْ بِالْبَاطِلِ يَأْخُذُوهُ لَا يَتَعَفَّفُونَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللهُ فِي كُتُبِهِ بِالْمَغْفِرَةِ لِلتَّائِبِينَ الَّذِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute