للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنْ كُنْتَ نَسِيتَهُ فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ فَإِنْ كَانَ أَكْرَمَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ يُعْطِيهِمْ

مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ فِي الْعُقْبَى.

وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ الْإِيجَازُ فِي قَوْلِهِ " فَانْقَلَبُوا " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَرَجُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [٢٦: ٦٣] أَيْ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ مُنَاجَاةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ فِي أَرْضِ مَدْيَنَ وَإِرْسَالِهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَجَعْلِ أَخِيهِ وَزِيرًا لَهُ وَأَمْرِهِمَا بِأَنْ يُبَلِّغَا فِرْعَوْنَ رِسَالَتَهُ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [٢٠: ٤٩] أَيْ قَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا بَلَّغَاهُ الرِّسَالَةَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولَانِ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟ فَقَدَ فُهِمَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - صَدَعَا بِأَمْرِ رَبِّهِمَا وَذَهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَبَلَّغَاهُ مَا أَمَرَهُمَا اللهُ - تَعَالَى - بِتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ.

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْطَانِ هُنَا شَيْطَانُ الْإِنْسِ الَّذِي غَشَّ الْمُسْلِمِينَ وَخَوَّفَهُمْ لِيُخَذِّلَهُمْ، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِ فَقِيلَ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ أُحُدٍ أَنْ يَكُرَّ لِيَسْتَأْصِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُخَوِّفُهُمْ فِي بَدْرٍ الثَّانِيَةِ أَوِ الصُّغْرَى. وَقِيلَ هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ لِيُثَبِّطَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ الْمَوْعِدِ (وَقَدْ أَسْلَمَ نُعَيْمٌ يَوْمَ الْأَحْزَابِ) وَقِيلَ هُوَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ شَيْطَانُ الْجِنِّ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ عَلَى حَدِّ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [٢: ٢٦٨] وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: لَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَكُمْ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ أَوْ مَنْ أَوْعَزَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ أَوْ مَنْ وَسْوَسَ بِهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ يُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَأَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِكُمْ أَنْ تَقْعُدُوا عَنْ لِقَائِهِمْ وَتَجْبُنُوا عَنْ مُدَافَعَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَخْوِيفِهِمْ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ أَنَّهُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ فَيُسَوِّلُ لَهُمُ الْقُعُودَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَيُزَيِّنُ لَهُمْ خِذْلَانَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِيهِ لَيْسَتْ جَلِيَّةً كَجَلَائِهَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي أَيْضًا، وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَخَافُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ فَيُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ.

أَيْ لَا تَحْفُلُوا بِقَوْلِهِمْ: فَاخْشَوْهُمْ فَتَخَافُوهُمْ بَلْ خَافُونِي أَنَا لِأَنَّكُمْ أَوْلِيَائِي وَأَنَا وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ رَاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ قَائِمِينَ بِحُقُوقِهِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ التَّنْبِيهُ إِلَى الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. وَبَيْنَ وَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ أَنْ تُوَازِنُوا بَيْنَ قُوَّتِي

<<  <  ج: ص:  >  >>