بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقَدْ قَالَ - سُبْحَانَهُ - لِأَقْوَى النَّاسِ إِيمَانًا وَأَوْسَعِهِمْ عِلْمًا بِهِ وَبِسُنَّتِهِ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [٢٠: ١١٤] وَكَذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ تَزِيدُ مَنْ يَتَلَقَّاهَا إِيمَانًا كُلَّمَا تَلَقَّى شَيْئًا مِنْهَا، وَقَدْ يَتَدَبَّرُهَا الْمُؤْمِنُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا بِأَيَّامٍ أَوْ سِنِينَ، فَيَفْهَمُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ فَيَزْدَادُ إِيمَانًا. قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [٩: ١٢٤، ١٢٥] وَقَالَ عَلِيٌّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) حِينَ سُئِلَ
هَلْ خَصَّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ؟ : لَا إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ.
وَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدْرِ تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي أَصْلِ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْوِجْدَانِ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [٣٣: ٢٢] وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَيْ وَقَالُوا مُعَبِّرِينَ عَنْ إِيمَانِهِمْ حَسْبُنَا اللهُ أَيْ هُوَ كَافِينَا مَا يُهِمُّنَا مَنْ أَمْرِ الَّذِينَ جَمَعُوا لَنَا، وَحَسْبُنَا بِمَعْنَى مُحْسِبُنَا، فَهُوَ مِنْ أَحْسَبَهُ إِذَا كَفَاهُ كَمَا قَالُوا: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الَّذِي تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ هُوَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَنْصُرَنَا عَلَيْهِمْ عَلَى قِلَّتِنَا وَكَثْرَتِهِمْ، أَوْ يُلْقِيَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَكْفِيَنَا شَرَّ بَغْيِهِمْ وَكَيْدِهِمْ - وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَلْقَى الرُّعْبَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ وَجَيْشِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأَعَزَّ اللهُ بِذَلِكَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ.
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أَيْ فَعَادُوا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ عَلَى لِقَاءِ الَّذِينَ جَمَعُوا لَهُمْ وَمُنَاجَزَتِهِمُ الْقِتَالَ مُتَمَتِّعِينَ أَوْ مَصْحُوبِينَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَهِيَ السَّلَامَةُ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوِ الْعَافِيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْفَضْلُ فَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ عِيرًا مَرَّتْ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ مَالًا فَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَذَلِكَ الْفَضْلُ " وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَوْسِمَ هُوَ مَوْسِمُ بَدْرٍ الصُّغْرَى وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا خَبَرُ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا وَأَنَّهُمُ اتَّجَرُوا فِيهَا وَرَبِحُوا، وَلَيْسَ فِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى أَوْ بَدْرٍ الْمَوْعِدِ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لِأَنَّ غَزْوَةَ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ الْمُتَّصِلَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ قَدْ قِيلَ لَهُمْ فِيهَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا فَخَرَجُوا إِلَى لِقَائِهِمْ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ مَعْنَوِيٍّ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَلَا أَذًى، وَفَسَّرَ السُّوءَ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ أَيْ أَعْظَمَ مَا يُرْضِيهِ وَتُسْتَحَقُّ بِهِ كَرَامَتُهُ - وَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَفَمِنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ [٣: ١٦٢]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute