الْجِدَالُ، فَكَأَنَّ الْمُتَجَادِلَيْنِ يَفْتِلُ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ عَلَى رَأْيِهِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِي الْجِدَالِ الصِّرَاعُ وَإِسْقَاطُ الْإِنْسَانِ صَاحِبَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ وَهِيَ (بِالْفَتْحِ) الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ اهـ. وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: جَدَلَ الرَّجُلُ جَدَلًا فَهُوَ جَدِلٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَلَ مُجَادَلَةً إِذَا خَاصَمَ بِمَا يَشْغَلُ عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدِلَّةِ لِظُهُورِ أَرْجَحِهَا، وَهُوَ مَحْمُودٌ إِنْ كَانَ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ، وَإِلَّا فَمَذْمُومٌ اهـ، وَقَدْ وَرَدَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ فِي ذَمِّ الْجَدَلِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْهَا: ((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا.
(قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) أَيْ قَدْ خَاصَمْتَنَا وَحَاجَجْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا وَاسْتَقْصَيْتَ فِيهِ فَلَمْ تَدَعْ لَنَا حُجَّةً إِلَّا دَحَضْتَهَا، حَتَّى مَلِلْنَا وَسَئِمْنَا وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقُولُهُ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (٧١: ٥ و٦ إِلَخْ) . وَقَوْلُهُ لَهُمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ) (١٠: ٧١ إِلَخْ) (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) مِنْ عَذَابِ اللهِ الدُّنْيَوِيِّ الَّذِي تَخَافُهُ عَلَيْنَا، الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْلُهُ: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٢٦) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فِي دَعْوَاكَ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُنَا عَلَى عِصْيَانِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. (قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ) أَيْ إِنَّ هَذَا لِلَّهِ وَبِيَدِهِ لَا أَمْلِكُهُ أَنَا، وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَأْتِيكُمْ بِهِ إِنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا شَكَّ فِيهِ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وَلَا فَائِتِينَ لَهُ إِنْ أَخَّرَهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، فَهُوَ مَتَى شَاءَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَنَفِيُ الْإِعْجَازِ مُؤَكَّدٌ بِالْبَاءِ.
(وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) النُّصْحُ تَحَرِّي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ قَوْلًا وَعَمَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاصِحُ الْعَسَلِ، لِخَالِصِهِ الْمُصَفَّى مِنْهُ، وَنَصَحَ لَهُ أَفْصَحُ مِنْ نَصَحَهُ، وَالْإِغْوَاءُ الْإِيقَاعُ فِي الْغِنَى وَهُوَ الْفَسَادُ الْحِسِّيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ نُصْحِي لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِي لَهُ فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ نَفْعُهُ عَلَى إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِمَا عُرِفَ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ نَفْعَ النُّصْحِ لَهُ شَرْطَانِ أَوْ طَرَفَانِ، هُمَا الْفَاعِلُ لِلنُّصْحِ وَالْقَابِلُ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَيُّ وَالْفَسَادُ، بِمُقَارَفَةِ أَسْبَابِهِ مِنَ الْغُرُورِ بِالْغِنَى وَالْجَاهِ وَالْكِبْرِ، وَهُوَ غَمْطُ الْحَقِّ وَاحْتِقَارُ الْمُتَكَبِّرِ لِمَنْ يَزْدَرِي مِنَ النَّاسِ، وَتَعَصُّبُهُ لِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَحُبُّ الشَّهَوَاتِ الْمَالِنَةِ مِنْ طَاعَةِ اللهِ، فَمَعْنَى إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِإِغْوَائِهِمُ: اقْتِضَاءُ سُنَّتِهِ فِيهِمْ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute