للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ أَيْنَ مَكَانُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْعِبْرَةِ، وَالشُّعُورِ بِعُقُوبَةِ الْجِنَايَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى عِلَاجِ التَّوْبَةِ، وَقَدْ ثُلَّتْ عُرُوشُهَا، وَخَوَتْ صُرُوحُ عَظَمَتِهَا عَلَى عُرُوشِهَا، وَكَانَتْ أَجْدَرَ الشُّعُوبِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي هَلَاكِ الْأُمَمِ وَاتِّقَائِهَا، وَأَسْبَابِ حِفْظِ الدُّوَلِ وَبَقَائِهَا، فَقَدْ أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ أَيْنَ هِيَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَرَكَ تَذْكِيرَهَا بِهِ الْعُلَمَاءُ، فَهَجَرَهُ الدَّهْمَاءُ، وَجَهِلَ أَحْكَامَهُ وَحِكَمَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، ثُمَّ نَبَتَتْ فِيهَا نَابِتَةٌ لَا تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، أَقْنَعَهُمْ أَسَاتِذَتُهُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ لَا سَبَبَ لِهُبُوطِهَا وَسُقُوطِهَا إِلَّا اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، فَأَضَلُّوهُمُ السَّبِيلَ، وَلَفَتُوهُمْ عَنِ الدَّلِيلِ، فَذَنْبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَهُ، وَذَنْبُ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَهُ، هَؤُلَاءِ مُقَلِّدَةٌ لِلْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ الْخَادِعِينَ، وَأُولَئِكَ مُقَلِّدَةٌ لِشُيُوخِ الْحَشْوِيَّةِ الْجَامِدِينَ، فَمَتَى تَنْتَشِرُ دَعْوَةُ الْمُصْلِحِينَ أُولِي الِاسْتِقْلَالِ، فَتُجْمَعُ الْكِمْلَةُ بِمَا أُوتِيَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالِاعْتِدَالِ، عَلَى قَوْلِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) .

(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ

فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)

بَيَّنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُمَا بَدْءٌ لِلْإِنْذَارِ - بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ - بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ بِعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، قَفَّى بِهِ عَلَى تَخْوِيفِ قَوْمِ الرَّسُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، بِتَخْوِيفِهِمْ مِمَّا يَعْقُبُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْآجِلِ، وَهُوَ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ.

(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عَطَفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ وَيَجِيءُ بَعْدَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَأْسِ آخِرُ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ " الْفَاءَ " هُنَا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْفَصِيحَةَ، وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَلِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَنْفُسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>