للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يُقَالُ: سَخِرَ مِنْ فُلَانٍ وَسَخِرَ بِهِ (كَتَعِبَ) أَيِ اتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا (بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا) يَهْزَأُ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَصْنَعُ فَيُجِيبُهُمْ أَنَّهُ يَصْنَعُ بَيْتًا يَجْرِي عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَعْرُوفًا وَلَا مُتَصَوَّرًا، وَقَلَّ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِمَا هُوَ فَوْقَ عُقُولِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إِلَّا سَخِرُوا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُ النَّجَاحُ فِيهِ: (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) قَالَ مُجِيبًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا وَتَسْتَجْهِلُونَنَا الْيَوْمَ لِرُؤْيَتِكُمْ مِنَّا مَا لَا تَتَصَوَّرُونَ لَهُ فَائِدَةً: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) مِنَّا جَزَاءً وِفَاقًا، نَسْخَرُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ لِجَهْلِكُمْ، وَغَدًا لِمَا يَحِلُّ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ بِمَا نَعْمَلُ وَبِمَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ عَمَلِنَا.

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بَعْدَ تَمَامِهِ (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) أَيْ يُذِلُّهُ وَيَجْلِبُ لَهُ الْعَارَ وَالتَّبَارَ فِي الدُّنْيَا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ عَذَابُ الدُّنْيَا هَيِّنًا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ لِانْقِضَاءِ هَذَا وَزَوَالِهِ بِهَلَاكِكُمْ، وَبَقَاءِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ بِدَوَامِكُمْ.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ

وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) هَذَا بَيَانٌ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مِمَّا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: وَكَانَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ، وَيُقَابِلُ السُّخْرِيَةَ بِغَيْرِ ابْتِئَاسٍ وَلَا ضَجَرٍ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتُ أَمْرِنَا بِهَلَاكِهِمْ ((وَفَارَ التَّنُّورُ)) اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ - تَعَالَى -، فَهُوَ مَجَازٌ كَحَمِيَ الْوَطِيسُ، أَوْ فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ عِنْدَ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالتَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ الْخَبْزُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. قِيلَ: إِنَّ التَّاءَ أَصْلِيَّةٌ فِيهِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ فِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ حَوَّاءُ أُمُّ الْبَشَرِ وَأَنَّ تَنُّورَهَا بَقِيَ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يُوثَقُ بِهِ، وَالْفَوْرُ وَالْفَوَرَانُ ضَرْبٌ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِارْتِفَاعِ الْقَوِيِّ، يُقَالُ فِي الْمَاءِ إِذَا نَبَعَ وَجَرَى، وَإِذَا غَلَا وَارْتَفَعَ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: فَارَتِ الْقِدْرُ، وَفَارَتْ فَوْرَاتُهَا، وَعَيْنٌ فَوَّارَةٌ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، وَفَارَ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ. وَمِنَ الْمَجَازِ: فَارَ الْغَضَبُ، وَأَخَافُ أَنْ تَفُورَ عَلَيَّ، وَقَالَ ذَلِكَ فِي فَوْرَةِ الْغَضَبِ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: الْفَوْرُ شِدَّةُ الْغَلَيَانِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّارِ نَفْسِهَا إِذَا هَاجَتْ، وَفِي الْقَدْرِ وَفِي

<<  <  ج: ص:  >  >>