للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أُخْرَى فِي أَنْفُسِ مَنْ أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ مِلْكِيَّةٍ وَبَشَرِيَّةٍ وَصُوَرًا أُخْرَى فِي الْهَوَاءِ، وَفِي الْخَطِّ عَلَى الْكَاغِدِ، وَفِي النَّقْشِ عَلَى أَلْوَاحِ الْفُونُغْرَافِ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ عَلَى مَا بَيْنَهَا مِنَ التَّبَايُنِ التَّامِّ مَظَاهِرُ لِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ مَا أَرَادَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ إِظْهَارَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِكَلَامِهِ كَبَيْتِ لَبِيَدٍ الشَّاعِرِ، وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (١١٢: ١ - ٤) .

فَمِنْ تَلَقَّى هَذِهِ الصُّورَةَ مِنْ لِسَانِ الْقَارِئِ، أَوْ مِنَ الصُّورَةِ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا السُّورَةُ بِحُرُوفٍ مِنَ الْخَطِّ الْكُوفِيِّ أَوِ النَّسْخِيِّ أَوِ الْفَارِسِيِّ أَوْ غَيْرِهَا، عُلِمَ بِهَا مِنْ كَلَامِ اللهِ عَيْنُ مَا عَلِمَهُ جِبْرِيلُ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الرُّسُلِ فِي التَّلَقِّي عَنِ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا وَاسِطَةٍ، أَوِ التَّلَقِّي عَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَنْ هُوَ الْمُظْهِرُ لِمَعَانِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنْ عِلْمِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا عَمَلَ

وَلَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُبَلِّغِينَ لَهَا فِي تَأْلِيفِ عِبَارَتِهَا لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَلَا الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَلَّغُوهَا لِلتَّابِعِينَ قَوْلًا وَكِتَابَةً، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا تَأْوِيلَ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَلَا تَعْطِيلَهُ وَلَا حُدُوثَهُ، وَلَا تَشْبِيهَهُ بِكَلَامِ خَلْقِهِ، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُ عِلْمَ خَلْقِهِ، وَلَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ نَكُونَ قَدْ أَدْرَكْنَا كُنْهَ هَذِهِ الصِّفَةِ بِفَهْمِنَا لِمَا بَلَّغَنَا تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ عِلْمِهِ بِهِ، كَمَا أَنَّ إِطْلَاعَهُ إِيَّانَا عَلَى مَا عَلِمَهُ فِي الْأَزَلِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدًا صَمَدًا لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ - لَا يَقْتَضِي إِدْرَاكَ كُنْهِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، بَلْ نَحْنُ لَمْ نُدْرِكْ كُنْهَ كَلَامِنَا فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا فِي الْهَوَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا.

وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ تَجَلِّي الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَعَرُّفِهِ لِمَنْ شَاءَ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَلَا مُشَابَهَتَهُ لِلصُّوَرِ وَلَا لِحِجَابِ النُّورِ، وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا إِدْرَاكِ كُنْهِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمَعْرِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ كَمَعْرِفَةِ بَعْضِهِمْ لِكَلَامِهِ بِتَبْلِيغِ اللِّسَانِ دُونَ الْكِتَابَةِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ دُونَ اللِّسَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَمَالٌ لَهُ، وَإِنَّمَا النَّقْصُ مَا تَخَيَّلَهُ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ مِنْ جَعْلِ الْخَالِقِ تَعَالَى مَعْنًى سِلْبِيًّا.

(تَتِمَّةُ السِّيَاقِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ)

أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُ مَنَعَ مُوسَى رُؤْيَتَهُ - يَعْنِي فِي الدُّنْيَا - وَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا فِيهَا بِمَا آتَاهُ يَوْمَئِذٍ بِالْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أَيْ: أَنَّنَا أَعْطَيْنَاهُ أَلْوَاحًا كَتَبْنَا لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ مَوْعِظَةً مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُؤَثِّرَ فِي الْقُلُوبِ تَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَهِيَ أُصُولُ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ، وَأَحْكَامُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَتَفْصِيلُهَا، ذَكَرَهَا مَعْدُودَةً مَفْصُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَإِسْنَادُ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى إِمَّا عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>