تَأْلَّفَ نَظْمُ هَذَا الْبَيْتِ فِي نَفْسِ لَبِيَدٍ بِمُقْتَضَى الصَّنْعَةِ وَالْغَرِيزَةِ الَّتِي بِهَا يُصَوِّرُ الْإِنْسَانُ مَا فِي عِلْمِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَسَمِعَهُ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ فَنَقَلُوهُ عَنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ ثُمَّ بِأَقْلَامِهِمْ، وَلَا يَزَالُ بَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ بَعْضٍ، وَيُمْكِنُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَتَنَاقَلُوهُ بِالتِّلِيفُونِ وَالتِّلِغْرَافِ، وَلَكِنَّهُ فِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ وَبِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ، نَقَلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ لَبِيَدٍ قَالَهُ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، وَلَيْسَ كَلَامُ أَحَدٍ مِمَّنْ يَنْشُدُهُ الْيَوْمَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُرَقِّمُهُ بِقَلَمِهِ أَوْ يُؤَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِالتِّلِغْرَافِ أَوْ غَيْرِهِ.
إِذَا تَذَكَّرْتَ هَذَا كُلَّهُ فِي كَلَامِ الْإِنْسَانِ الْمَخْلُوقِ عَلَى ضَعْفِهِ وَنَقْصِهِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللهُ - تَعَالَى - لِنَفْسِهِ - وَتَذَكَّرْتَ مَعَ هَذَا كَمَالَ الْخَالِقِ وَتَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ - وَأَنَّهُ كَلَّفَكَ الْإِيمَانَ بِوُجُودِهِ وَبِاتِّصَافِهِ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ - فَأَيُّ عَثْرَةٍ يَعْثُرُ بِهَا عَقْلُكَ إِذَا آمَنْتَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا؛ لِأَنَّهَا مِرْآةُ عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ الْأَبَدِيِّ، وَأَنَّهُ بَلَّغَ بَعْضَ رُسُلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا شَاءَ مِنْ كَلَامِهِ؛ لِيُوحُوهُ إِلَى رُسُلِهِ مِنَ الْبِرِّ؛ لِيُبَلِّغُوهُ لِأُمَمِهِمْ. كَمَا خَاطَبَ مُوسَى بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَاحِدٌ عَلَى اخْتِلَافِ تَبْلِيغِهِ وَحِفْظِهِ، فَقِيَامُهُ بِذَاتِ اللهِ - تَعَالَى - غَيْرُ تَمَثُّلِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ، وَفِي نَفْسِ مُوسَى حِينَ سَمِعَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَدَاءُ جِبْرِيلَ إِيَّاهُ وَنُزُولُهُ بِهِ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ أَدَاءِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ إِلَى جِبْرِيلَ، وَقِيَامُهُ فِي نَفْسِ الْمَلَكِ غَيْرُ قِيَامِهِ فِي الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ قِيَامَهُ فِي الْهَوَاءِ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ غَيْرُ قِيَامِهِ فِي لَوْحِ الْفُونُغْرَافِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ قِيَامِهِ فِي الصُّحُفِ، وَكَوْنُهُ عَلَى اخْتِلَافِ صُوَرِهِ، وَطُرُقِ أَدَائِهِ وَاحِدًا فِي كَوْنِهِ كَلَامُ اللهِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ، كَمَا قُلْنَا فِي بَيْتِ لَبِيَدٍ مِنْ كَوْنِ إِنْشَادِنَا لَهُ، وَكِتَابَتِنَا إِيَّاهُ الْيَوْمَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ كَلَامَ لَبِيَدٍ الْقَدِيمَ
النِّسْبِيَّ غَيْرَ الْأَزَلِيِّ - وَكَلَامُ اللهِ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ حَقِيقَةٌ أُولَى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو الْعَقْلَ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ أَوْ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقِينَ الْمُحْدَثِينَ يَتَنَاقَلُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ، وَسَائِرِ آلَاتِهِمُ الْمُحْدَثَةِ، وَلَا إِلَى التَّقَصِّي مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ذُو حُرُوفٍ مُرَتَّبَةٍ، وَلَا بِأَنَّ تَلَقِّيَهُ يُسَمَّى سَمَاعًا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ (٩: ٦) .
إِذَا جَعَلْتَ هَذَا الْبَيَانَ وَسِيلَةً لِفَهْمِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْكَلَامِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَوْنَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى مَعَ اجْتِنَابِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ جَمِيعًا وِفَاقًا لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَمَعَ التَّقْرِيبِ بِالْمِثَالِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ هَذَا الْعَصْرِ فِي عُلُومِهِ وَفُنُونِهِ فَلَكَ بَعْدَ هَذَا أَنْ تَجْعَلَهُ مِثَالًا يُقَرِّبُ مِنْ عَقْلِكَ مَعْنَى تَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْحُجُبِ عَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ تِلْكَ الصُّوَرِ وَالْحُجُبِ.
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ لِلْكَلَامِ حَقِيقَةً، وَلَكَ - مَعَ أَمْنِ اللَّبْسِ - أَنْ تَقُولَ صُورَةً، هِيَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ، وَمَبْدَأُ إِظْهَارِ مَا شَاءَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَظْهَرَهُ مِنْ عِلْمِهِ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ لَهُ صُوَرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute