الْبِلَادِ وَكُلِّ الشُّعُوبِ، بَلْ إِنَّ مِنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَفِي غَيْرِهَا مَنْ يُحَبِّبُ إِلَيْهِ الْجَرَائِمَ أَوْ يُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ كَوْنُ عُقُوبَتِهَا السِّجْنَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا مِنْ بَيْتِهِ، وَإِنَّ فِي مِصْرَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ مَنْ يُسَمِّي السِّجْنَ نُزُلًا أَوْ فُنْدُقًا، وَسَمِعْتُ أَنَا غَيْرَ وَاحِدٍ فِي سُورِيَةَ يَقُولُ: إِذَا فَعَلَ فُلَانٌ كَذَا فَإِنَّنِي أَقْتُلُهُ وَأُقِيمُ فِي الْقَلْعَةِ عَشْرَ سِنِينَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاتِلَ هُنَاكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ غَالِبًا بِالسِّجْنِ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً فِي قَلْعَةِ طَرَابُلُسَ الشَّامِ، وَيَعْفُو السُّلْطَانُ فِي عِيدِ جُلُوسِهِ عَمَّنْ تَمَّ لَهُ ثُلُثَا الْمُدَّةِ الْمَحْكُومِ بِهَا عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ، وَاشْتُهِرَ عَنْ بَعْضِ الْمُجْرِمِينَ فِي مِصْرَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بَعْضَ السُّجُونِ الْعَصْرِيَّةِ ((لُوكَانْدَةَ كُولَسَ)) بِالْإِضَافَةِ إِلَى كُولَسَ بَاشَا مُدِيرِ السُّجُونِ الَّذِي أُنْشِئَتْ فِي عَهْدِهِ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَسْرِقُ كَذَا أَوْ أَضْرِبُ فُلَانًا وَأَشْتُو فِي لُوكَانْدَةِ كُولَسَ فَإِنَّ الشِّتَاءَ فِيهَا أَرْحَمُ وَأَنْعَمُ مِنَ الشِّتَاءِ فِي بَيْتِنَا أَوْ فِي الشَّوَارِعِ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى الْمُجْرِمِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَقْتُلَ لِأَنَّ عِقَابَ الْقَتْلِ فِي هَذِهِ السُّجُونِ - وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ - أَهْوَنُ مِنْ عِيشَتِهِ الشَّقِيَّةِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي أَصْحَابِ الثَّارَاتِ الَّتِي لَا تَمُوتُ؟ - فَقَتْلُ الْقَاتِلِ هُوَ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَتْلِ (قَالَ شَيْخُنَا) : وَقَدْ بَالَغَ فِي الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ مُعَدِّلُ الْقَانُونِ الْمِصْرِيِّ حَيْثُ أَجَازَ الْحُكْمَ بِالْإِعْدَامِ إِذَا وُجِدَتِ الْقَرَائِنُ الْقَاطِعَةُ عَلَى ثُبُوتِ التُّهْمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُجِيزُهُ إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ أَوْ شَهَادَةِ شُهُودِ الرُّؤْيَةِ.
وَقَدْ تَقَعُ فِي كُلِّ بِلَادٍ صُوَرٌ مِنْ جَرَائِمِ الْقَتْلِ يَكُونُ فِيهَا الْحُكْمُ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ ضَارًّا وَتَرْكُهُ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ، كَأَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ أَخَاهُ أَوْ أَحَدَ أَقَارِبِهِ لِعَارِضٍ دَفَعَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ هَذَا الْقَاتِلُ هُوَ الْعَائِلُ لِذَلِكَ الْبَيْتِ، وَإِذَا قُتِلَ يَفْقِدُونَ بِقَتْلِهِ الْمُعِينَ وَالظَّهِيرَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ أَحْيَانًا مَفَاسِدُ وَمَضَارُّ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمَقْتُولِ، وَيَكُونُ الْخَيْرُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَدَمَ قَتْلِهِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، أَوْ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَنْفَعُ لَهُمْ، فَأَمْثَالُ هَذِهِ الصُّوَرِ تُوجِبُ أَلَّا يَكُونَ الْحُكْمُ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ حَتْمًا لَازِمًا فِي كُلِّ حَالٍ، بَلْ يَكُونُ هُوَ الْأَصْلَ، وَيَكُونُ تَرْكُهُ جَائِزًا بِرِضَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَعَفْوِهِمْ، فَإِذَا ارْتَقَتْ عَاطِفَةُ الرَّحْمَةِ فِي شَعْبٍ أَوْ قَبِيلٍ أَوْ بَلَدٍ إِلَى أَنْ صَارَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْهُمْ يَسْتَنْكِرُونَ الْقَتْلَ وَيَرَوْنَ الْعَفْوَ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ فَذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَمْنَعُهُمْ مِنْهُ بَلْ تُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، وَهَذَا الْإِصْلَاحُ الْكَامِلُ فِي الْقِصَاصِ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَمَا كَانَ لِيَرْتَقِيَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ عِلْمُ الْإِنْسَانِ. قَالَ تَعَالَى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الْقِصَاصُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: يُفِيدُ الْمُسَاوَاةَ، فَمَعْنَى الْقِصَاصِ هُنَا أَنْ يُقْتَلَ الْقَاتِلُ ; لِأَنَّهُ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ مُسَاوٍ لِلْمَقْتُولِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، فَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ شَرْعِيَّةُ الْقِصَاصِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ
وَإِبْطَالُ ذَلِكَ الِامْتِيَازِ الَّذِي لِلْأَقْوِيَاءِ عَلَى الضُّعَفَاءِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) أَيْ: إِنَّ هَذَا الْقِصَاصَ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا جَوْرَ، فَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ حُرًّا يُقْتَلُ هُوَ بِهِ لَا غَيْرُهُ مِنْ سَادَاتِ الْقَبِيلَةِ، وَلَا أَكْثَرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute