وَإِذَا نَظَرْنَا فِي أَعْمَالِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَشَرَائِعِهِمْ فِي الْقَتْلِ نَجِدُ الْقُرْآنَ وَسَطًا حَقِيقِيًّا لَا بَيْنَ مَا نُقِلَ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَقَطْ بَلْ بَيْنَ مَجْمُوعِ آرَاءِ الْبَشَرِ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ، فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَحَكَّمُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الْقَبَائِلِ وَضَعْفِهَا، فَرُبَّ حُرٍّ كَانَ يُقْتَلُ مِنْ قَبِيلَةٍ فَلَا تَرْضَى قَبِيلَتُهُ بِأَخْذِ الْقَاتِلِ بِهِ، بَلْ تَطْلُبُ بِهِ رَئِيسَهَا، وَأَحْيَانًا كَانُوا يَطْلُبُونَ بِالْوَاحِدِ عَشَرَةً وَبِالْأُنْثَى ذَكَرًا، وَبِالْعَبْدِ حُرًّا، فَإِنْ أُجِيبُوا وَإِلَّا قَاتَلُوا قَبِيلَةَ الْقَاتِلِ وَسَفَكُوا دِمَاءً كَثِيرَةً، وَهَذَا إِفْرَاطٌ وَظُلْمٌ عَظِيمٌ تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْبَدَاوَةِ الْخَشِنَةِ، وَفَرْضُ التَّوْرَاةِ قَتْلَ الْقَاتِلِ إِصْلَاحٌ فِي هَذَا الظُّلْمِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ فِي النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ الْقَوَانِينِ فِي زَمَانِنَا هَذَا مَنْ يُنْكِرُ الْمُعَاقَبَةَ بِالْقَتْلِ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ مِنَ الْقَسْوَةِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ فِي الْبَشَرِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمُجْرِمَ الَّذِي يَسْفِكُ الدَّمَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ تَرْبِيَةً لَا انْتِقَامًا، وَذَلِكَ يَكُونُ بِمَا دُونَ الْقَتْلِ، وَيُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ إِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْجَرِيمَةُ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْإِقْرَارِ، بِأَنْ ثَبَتَتْ بِالْقَرَائِنِ أَوْ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْحُكُومَةَ إِذَا عَلَّمَتِ النَّاسَ التَّرَاحُمَ فِي الْعُقُوبَاتِ فَذَلِكَ أَحْسَنُ تَرْبِيَةً لَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مَرْضَى الْعُقُولِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوضَعُوا فِي
مُسْتَشْفَيَاتِ الْأَمْرَاضِ الْعَقْلِيَّةِ وَيُعَالَجُوا فِيهَا إِلَى أَنْ يَبْرَءُوا.
وَإِذَا دَقَّقْنَا النَّظَرَ فِي أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ نَرَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُشَرِّعُوا أَحْكَامًا خَاصَّةً بِقَوْمٍ تَعَلَّمُوا وَتَرَبَّوْا عَلَى الطُّرُقِ الْحَدِيثَةِ وَسِيسُوا بِالنِّظَامِ وَالْحُكْمِ حَتَّى لَا سَبِيلَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَثْأَرُوا لَهُ مِنَ الْقَاتِلِ وَلَا أَنْ يَسْفِكُوا لِأَجْلِهِ دِمَاءً بَرِيئَةً، وَحَتَّى يُؤْمَنَ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ بُيُوتِ الْقَاتِلِينَ وَبُيُوتِ الْمَقْتُولِينَ، وَوُجِدَتْ عِنْدَهُمْ جَمِيعُ وَسَائِلِ التَّرْبِيَةِ وَالْمُعَالَجَةِ - لَا أَحْكَامًا عَامَّةً لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَمَعَ هَذَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ يَغْتَرُّونَ بِآرَائِهِمْ وَيَرَوْنَهَا شُبْهَةً عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا النَّافِذُ الْبَصِيرَةِ الْعَارِفُ بِمَصَالِحِ الْأُمَمِ الَّذِي يَزِنُ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ بِمِيزَانِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَا بِمِيزَانِ الْوِجْدَانِ الشَّخْصِيِّ الْخَاصِّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِبَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرَبِّي الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ وَالْقَبَائِلَ كُلَّهَا، وَأَنَّ تَرْكَهُ بِالْمَرَّةِ يُغْرِي الْأَشْقِيَاءَ بِالْجَرَاءَةِ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْحَبْسِ وَالْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الِانْتِقَامِ بِالْقَتْلِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبَ عَلَى أَهْلِهَا التَّرَاحُمُ أَوِ التَّرَفُ وَالِانْغِمَاسُ فِي النَّعِيمِ كَبَعْضِ بِلَادِ أُورُبَّا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute